مقالات

الريادة أو التبعية: إرادة الشعوب في صناعة مصيرها

 

الدكتور محمد عصمت البياتي

تتمايز الأمم في أدوارها الحضارية عبر التاريخ، فمنها مَنْ يَحْتَلُّ الصدارة في قيادة مسيرة الإنسانية نحو آفاق الابتكار والارتقاء، ومنها مَنْ يَرْتَضِي لنفسه موقع التابع الخاضع لإرادة الغير. هذا التمايز ليس محض صدفة عابرة أو قضاءً مُبْرَماً، بل هو ثمرةٌ لوعي المجتمعات واختياراتها المصيرية. فالأمم التي تتبوأ مكانة الريادة تصنع مصيرها بإرادة أبنائها الواعية وطموحاتهم المتجددة، في حين تظل الأمم التبعية رهينةَ الجمود الفكري والاستسلام لِسِفْسافِ التلقين، حتى تفقد أدواتها في صياغة وجودها الحضاري.

 

إن الأمم الرائدة هي تلك التي تدرك أن القيادةَ الحضارية تُكْتَسَبُ بالعزيمة المتوقدة، والإبداع الذي لا يعرف حدوداً، واستثمارَ الطاقات في بناء أجيالٍ تحمل شعلةَ التميز. هذه الأمم تُؤْمِنُ بقدراتها الذاتية، فتُعلي من شأن العلم وتجعل منه ركيزةً لنهضتها، وتوجه مواردها نحو دعم البحث العلمي وتبني التقنيات المتطورة. كما تتميز بالمرونة الاستراتيجية في مواجهة التحديات، حيث تحوِّلُ الأزمات إلى منصاتٍ للانطلاق، وتتعامل مع المعضلات برؤيةٍ استباقيةٍ وإبداعٍ غير مسبوق. ولا يُغفَلُ هنا دور التلاحم العضوي بين القيادة الواعية والشعب الطموح؛ فالحكمة القيادية تتجسد في السعي لتحقيق الرفاه المجتمعي، والتحلي بروح المسؤولية التي تجعل القادة شركاءَ في صناعة المجد الحضاري لا مُتَلَقِّينَ لمكاسبه.

 

في المُقابل، تتراجع الأمم التبعية تحت وطأة غياب الهوية الحضارية الواضحة، وانزياح الروح الجماعية التي تُوَحِّدُ طاقات أفرادها نحو غاياتٍ سامية. فهي تعاني من فراغٍ في الإرادة السياسية الرشيدة، حيث ينغمس قادتها في صراعات المصالح الضيقة، أو يستسلمون لإملاءات القوى الخارجية. ويُؤَدِّي هذا الواقع إلى تحول هذه المجتمعات إلى مستهلكٍ سلبيٍّ لإنتاج الحضارات الأخرى، عاجزٍ عن تحقيق الاستقلالية في قراره أو إدارة موارده. ويتفاقم التحدي حين تسود ثقافة الرفض الجَماعي للتجديد، مُعَزِّزَةً هوةً حضاريةً بينها وبين الأمم الصاعدة.

 

إن الفارق الجوهري بين الأمتين لا يتمحور حول الموارد المادية فحسب، بل حول المنظومة القيمية والفكرية التي تُشَكِّلُ وعيها الجمعي. فالأمة الرائدة تُنْشِئُ أبناءها على ثقافة المسؤولية والإبداع، وتَخْطُطُ لرؤيةٍ استراتيجيةٍ تمتد لأجيالٍ قادمة. بينما تظل الأمة التبعية غارقةً في التردد بين ماضيها التليد وحاضرها المُعَطَّل، عاجزةً عن صياغة مشروعٍ حضاريٍّ واضح المعالم. كما تبرزُ المفارقة في كيفية إدارة الموارد؛ فالأولى تُحْسِنُ توظيف إمكاناتها مهما تواضعت، بينما تفشل الثانية في استثمار ثرواتها الطبيعية والبشرية حتى لو امتلكتها.

 

غير أن صفحات التاريخ تُثْبِتُ أن التبعيةَ ليست قدراً مُحَتَّماً، فالأمم قادرةٌ على تغيير مسارها متى أدركت أسباب تراجعها وعملت على تجاوزها. فاليابان، التي خرجت من ركام الحرب العالمية الثانية باقتصادٍ مُدَمَّرٍ وروحٍ منهكة، استطاعت أن تتحول إلى عملاقٍ تكنولوجي عبر تبني استراتيجيةٍ تعليميةٍ طموحة، وثقافةِ الابتكار، والإدارة الرشيدة لمواردها. وهذا التحول يُجَسِّدُ حقيقةً مفادها أن النهضةَ تتطلب إصلاحاً جذرياً يبدأ ببناء الإنسان، وتكريسِ الموارد لصناعة عقلٍ مُبْدِعٍ قبل أي استثمارٍ مادي.

 

وفي الختام، يُمكن التأكيد على أن موقعي الريادة والتبعية ليسا نقيضين ثابتين، بل هما تعبيرٌ عن حركيةِ التاريخ وقدرةِ الأمم على إعادة تشكيل وجودها. فالقيادةُ الحضارية ليست امتيازاً موروثاً، بل هي واجبٌ يتطلب تضافر الإرادات وغرسَ قيم التميز في الأجيال. كما أن التبعيةَ ليست سِجِّيلاً أبدياً، بل هي مرحلةٌ قابلةٌ للتجاوز متى أدركت الأمةُ أن النهضةَ تبدأ بإعادة اكتشاف ذواتها، واستعادةِ ثقتها بقدراتها الخلاقة. وهكذا تظل ديناميكيةُ الحضارات مرهونةً بمدى استجابة الأمم لنداء التاريخ، وقدرتها على تحويل التحديات إلى سُلَّمٍ تصعدُ عليه نحو المجد.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى