مقالات

وعد الديمقراطية في العراق: بين النظرية والواقع

 

عبدالله الذبان

منذ سقوط النظام الدكتاتوري في عام 2003، كان العراق في مسعى جاد لبناء نظام سياسي ديمقراطي يعكس التوجهات العالمية المعاصرة. وقد جاء الدستور العراقي لعام 2005 ليؤكد على المبادئ الديمقراطية الليبرالية، مشيرًا إلى ضرورة احترام حقوق الإنسان، وضمان الحريات المدنية، وتحقيق سيادة القانون. ورغم هذه الالتزامات النظرية، فإن التطبيق الفعلي لهذه المبادئ ظل يعاني من العديد من التحديات. يعكس النظام السياسي العراقي في الوقت الراهن حالة من التناقض بين المفهوم النظري للديمقراطية والممارسات السياسية اليومية، ما يطرح تساؤلات حول ما إذا كان العراق قادرًا على تحقيق ديمقراطية حقيقية.

 

 

 تحليل واقع النظام السياسي العراقي بعد 2003

رغم أن الدستور العراقي ينص على المبادئ الأساسية للديمقراطية، فإن تطبيق هذه المبادئ قد واجه تحديات كبيرة على مر السنين. وفيما يلي تحليل لبعض هذه التحديات بناءً على الواقع السياسي في العراق:

 

1. التحالفات الطائفية والعرقية

تعد المحاصصة الطائفية والعرقية من أبرز المظاهر التي أثرت على النظام السياسي العراقي. بعد 2003، تم تقسيم السلطة بين الطوائف (الشيعة، السنة، الأكراد)، وهو ما أعاق بناء نظام سياسي موحد يعمل لمصلحة جميع المواطنين بغض النظر عن خلفياتهم الدينية أو العرقية. المحاصصة أصبحت عائقًا أمام تشكيل حكومات مستقرة وقادرة على تنفيذ برامج إصلاحية حقيقية، وبالتالي ساهمت في تعزيز الانقسامات بدلاً من بناء الوحدة الوطنية.

 

 

 

 

 2. الفساد السياسي:

الفساد يمثل التحدي الأكبر الذي يعوق تقدم العراق نحو الديمقراطية الحقيقية. وفقًا لتقرير منظمة الشفافية الدولية لعام 2022، جاء العراق في مرتبة متدنية من حيث مكافحة الفساد، مما أدى إلى انتشار المحسوبية، وتوزيع المناصب الحكومية على أساس الانتماءات الطائفية والعرقية بدلاً من الكفاءة. يعرقل الفساد في العراق عملية اتخاذ القرارات الاقتصادية والسياسية السليمة، ويضعف الثقة بين المواطنين والحكومة.

 

3. ضعف سيادة القانون:

رغم أن النظام القضائي في العراق معترف به دستوريًا، إلا أن الواقع يشير إلى تزايد التدخلات السياسية في القضاء. السلطات التنفيذية تملك تأثيرًا كبيرًا على القضاء، ما يؤدي إلى حالات من التحيز السياسي في محاكمة القضايا، خاصةً تلك التي تشمل شخصيات سياسية بارزة. غياب الشفافية في محاكمة الفاسدين وغياب العدالة في تطبيق القوانين يضعف من فعالية النظام القضائي ويؤثر سلبًا على سيادة القانون.

 

 4. تقييد حرية التعبير:

الحرية الصحفية في العراق تتعرض للتهديد بشكل متزايد. على الرغم من أن الدستور يضمن حرية التعبير، إلا أن العديد من الصحفيين والنشطاء السياسيين يواجهون تهديدات بالقتل، الاعتقال، أو المضايقات من قبل جهات أمنية وسياسية. هذا التقييد للحرية الإعلامية يحد من دور الإعلام في ممارسة الرقابة على الحكومة، مما يساهم في تعزيز الفساد وغياب المساءلة.

 

 5. الانتخابات: هل هي حرة ونزيهة؟

الانتخابات في العراق تظل محط جدل كبير. على الرغم من أن العملية الانتخابية تبدو شفافة على الورق، إلا أن هناك تقارير متكررة عن عمليات تزوير في الانتخابات، سواء من خلال التلاعب في نتائج التصويت أو من خلال حملات الضغط السياسي. كما أن النظام الانتخابي لا يشجع على المنافسة الحرة بين الأحزاب السياسية، إذ غالبًا ما تتحقق النتائج بناءً على تحالفات طائفية، مما يحد من القدرة على تغيير الحكومة بطرق ديمقراطية.

 

 

 

6. دور المجتمع الدولي وتأثيره على الديمقراطية العراقية:

تدخلات القوى الأجنبية في السياسة العراقية، خاصة الولايات المتحدة وإيران، كان لها دور كبير في تشكيل النظام السياسي العراقي بعد عام 2003. في البداية، ساعدت الولايات المتحدة في الإطاحة بنظام صدام حسين، ولكن بعد ذلك أصبح العراق ساحة صراع بين القوى الإقليمية. التدخلات السياسية الإقليمية تؤثر على الاستقرار الداخلي للعراق، وتعقد جهود بناء نظام ديمقراطي مستقل. لذا، فإن عراق ما بعد 2003 يعاني من تبعية كبيرة لدول إقليمية، وهو ما يساهم في الحد من استقلالية قراراته السياسية.

 

: 7. التحولات الاجتماعية والثقافية وتأثيرها على الديمقراطية

منذ عام 2003، شهد العراق تحولات اجتماعية وثقافية عميقة، على رأسها الارتفاع الملحوظ في نسبة الشباب، الذين يمثلون جزءًا كبيرًا من المجتمع العراقي. هؤلاء الشباب، الذين نشأوا في ظل التغييرات السياسية الكبرى، يحملون طموحات مختلفة عن تلك التي كان يحملها الأجيال السابقة. عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تمكّن العديد من العراقيين من التعبير عن آرائهم بشكل لم يكن ممكنًا في السابق. هذه الظاهرة أثرت بشكل كبير على الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في عام 2019 ضد الفساد والمحاصصة الطائفية، كان الشارع العراقي يطمح إلى تغييرات جذرية في النظام السياسي، لكن هذه التغييرات لم تتمكن من تحقيقها. حيث كانت السلطات تتعامل مع الاحتجاجات بالعنف، مما جعل المواطنين يواجهون تحديات كبيرة في الدفاع عن حقوقهم. في هذا السياق، يمكن القول أن تحول الوعي السياسي لدى العراقيين قد أضاف إلى المسؤوليات الملقاة على عاتق الدولة لبناء نظام ديمقراطي يليق بتطلعاتهم.

في النهاية

يكشف الواقع العراقي عن فجوة كبيرة بين المبادئ النظرية التي ينص عليها الدستور العراقي وبين الممارسات السياسية اليومية. على الرغم من أن العراق يملك دستورًا يؤكد على الديمقراطية الليبرالية ويضمن الحريات الأساسية، فإن هذه المبادئ لا تجد تطبيقًا حقيقيًا على الأرض بسبب مجموعة من العوامل المعقدة التي تتراوح بين المحاصصة الطائفية، والفساد المستشري، وضعف سيادة القانون.

عندما نتحدث عن الديمقراطية في العراق، يجب أن نتذكر أنها لا تعني مجرد إجراء انتخابات كل عدة سنوات، بل هي عملية مستمرة من بناء المؤسسات القوية التي تتسم بالاستقلالية والمساءلة. بدون إصلاحات جوهرية في النظام السياسي، سيظل العراق عالقًا في دائرة من التحديات التي تحول دون بناء ديمقراطية حقيقية.

يعد الفساد، الذي يهدد فعالية المؤسسات الحكومية، من أكبر المعوقات التي تحول دون تنفيذ أي برنامج إصلاحي حقيقي. كما أن ضعف سيادة القانون يعزز شعور المواطن بعدم الأمان والظلم، مما يقلل من ثقته في النظام القضائي. وبالإضافة إلى ذلك، تقييد الحريات الإعلامية والسياسية يعوق قدرة الشعب على المشاركة الفعالة في الحياة السياسية والمساهمة في الرقابة على الحكومة.

إن التحدي الأكبر الذي يواجه العراق في سعيه نحو الديمقراطية هو التغلب على الانقسامات الطائفية والعرقية التي تشكل محور النظام السياسي الحالي. هذه الانقسامات تساهم في جعل النظام السياسي أكثر هشاشة، حيث تعمل بعض الأطراف على تأمين مصالحها الخاصة على حساب المصلحة العامة. وهذا ما يجعل تشكيل حكومة توافقية يمر عبر محاصصات لا تعكس إرادة الشعب بقدر ما تعكس مصالح النخبة الحاكمة.

لذلك، إن ضمان ديمقراطية حقيقية في العراق يتطلب العديد من الإصلاحات على مختلف الأصعدة. بدايةً من تعزيز استقلالية المؤسسات القضائية، مرورًا بتطوير النظام الانتخابي ليعكس إرادة الشعب بصورة أكثر عدالة، وصولًا إلى إرساء ثقافة سياسية تدعم الشفافية والمساءلة. كما أن على العراق أن يسعى نحو الحد من التدخلات الخارجية التي تؤثر بشكل كبير في استقلالية قراراته، لأن الاستقلال السياسي يعد شرطًا أساسيًا لتحقيق الديمقراطية الحقيقية.

إذا تمكن العراق من مواجهة هذه التحديات بنجاح، فإنه سيكون قادرًا على تحقيق نموذج ديمقراطي يعكس تطلعات شعبه في الحرية والعدالة. ولكن حتى يحدث ذلك، سيظل التناقض بين النظرية والواقع يشكل أكبر تهديد لتحقيق الديمقراطية المنشودة، ويبقى الطريق طويلًا ومعقدًا، لكنه ليس مستحيلًا إذا توفرت الإرادة السياسية الحقيقية، والعمل الجاد من قبل الجميع.

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى