هبه جبار الماجد
عجزت الحكومات المتعاقبة في العراق عن إيجاد حياة كريمة لعوائل الشهداء ومفقودي الحروب التي شهدتها البلاد، وآخرها الحرب ضد تنظيم “داعش” التي خلفت وراءها آلافاً من الأيتام والأرامل وذوي الإعاقات.
فرغم وفرة النفط والثروات الباطنية عجز السّاسة في البلاد عن تأمين سقف وأربعة جدران لأولئك الذين يرزحون تحت خط الفقر والذين يناهز عددهم وفق إحصاءات رسمية خمسة ملايين ونصف المليون من أصل حوالي 43 مليون هم عدد سكان العراق.
لهذه الأسباب وكي لا يبقى المشهد قاتماً، أطلق “سيف عباس كطوف” في العام 2019 مبادرة فردية للإسهام في حلّ مشكلة السكن اعتماداً على تبرعات المجتمع العراقي نفسه، بعيداً عن الأحزاب السياسية ووعودها الانتخابية التي لم تتحقق إلى اليوم.
“سيف” المنتسب إلى الشرطة الاتحادية برتبة مفوض، أطلق على مبادرته اسم “مبادرة الـ 1000 دينار الخيرية”، وهي بحسب وصفه “مشروع إنساني بدعم ذاتي لا يرتبط بأي شخصية سياسية أو دينية أو حزبية يعتمد على التبرعات من الناس وعلى حثهم على دفع مبلغ 1000 دينار فقط أي ما يعادل 75 سنتاً، من أجل بناء منازل لائقة للأيتام وعوائل الشهداء والعوائل المتعففة”.
يتابع “سيف” الملقب في ناحية الشوملي في محافظة بابل بالـ “الشرطي القديس” نظراً لما قدمه للأهالي من خدمات خلال السنوات الأربع الماضية عجزت عن تحقيقها كبرى الأحزاب التي تحكم المحافظة: “قد تشكل هذه المبادرة خطوة على طريق الألف ميل في حل مشكلة كبيرة تعاني منها هذه العوائل التي ضحت بالغالي والنفيس من أجل الوطن”.
ضوء في نهاية النفق
لم يدرك “سيف” أن المشروع الذي أطلقه في البداية بهدف ترميم منزل واحد فقط في محافظة بابل سوف يتسع ويصل إلى مرحلة تشييد مجمعات سكنية للفقراء والأرامل تجمع تكاليفها من صدقات المتبرعين.
“كانت الفكرة في البداية بسيطة طرحتها على بعض الأصدقاء فدعموني وشجعوني، ثم تطورت من بناء غرفة وترميم دار إلى أن وصلنا اليوم لبناء مجمعات سكنية متكاملة”، يقول.
ويشير إلى أنه تمكن بمعاونة الخيرين من إكمال أكثر من 60 دارا متفرقة، من خلال ترميم بعضها، وبناء البعض الآخر بالكامل.
وعن الأموال التي تساهم ببناء هذه المنازل يوضح سيف بأن “التبرعات تتم بعد ما يشاهده الناس على مواقع التواصل مما ننشره عن مراحل البناء، ولدينا حسابات مصرفية يتم التبرع من خلالها، كذلك وضعنا العديد من صناديق التبرع في الأسواق والمقاهي، لمن يرغب بالتبرع نقدا”.
ويضيف “حملات الإشادة بالمبادرة من قبل المؤثرين وصناع المحتوى ووسائل الإعلام أسهمت بشكل كبير في تشجيع الناس على التبرع لإكمال ما بدأناه”.
مجمعات سكنية للفقراء
بات امتلاك منزل في العراق حلماً صعب المنال على الفقراء ما اضطرهم للتجاوز على أراضي الدولة، عبر مخالفات صريحة وتشويه عمراني وعشوائي، خاصة بعد عام 2003 عندما انهارت الدولة والقانون، وتراجعت محاسبة كل من يضع يده على أرض لا يمتلكها.
ووفقاً لتقرير منظمة الأمم المتحدة الذي شارك في إعداده برنامج الأغذية العالمي ومنظمة الأغذية والزراعة (فاو) والبنك الدولي فإن البلاد تحتاج إلى 5 ملايين وحدة سكنية لحل أزمة السكن للمواطنين الباحثين عن سقف يأويهم وعوائلهم.
لهذا، وبعد أن قام صاحب المبادرة “سيف عباس گطوف” بترميم وبناء العشرات من المنازل التي آوت العوائل المتعففة والأيتام، أطلق مبادرة جديدة في عام 2021 لبناء أول مجمع سكني متكامل.
“المشروع الأول كان بناء 25 دارا، وبمساحة 120 متر مربع للدار الواحد، بعد أن قمنا بشراء قطعة أرض زراعية بمساحة 5000 متر مربع في مدينة الشوملي التابعة لمحافظة بابل، وتأثيث كامل لهذه المنازل، مع إكمال جميع البنى التحتية والخدمات كافة”، يقول سيف.
ويتحدث السيد حسين الشمري المهندس المقيم لمشروع بناء 25 دار سكني “تداولنا أنا والأخ سيف في مساحة الأرض وطبيعتها الزراعية، وكيفية فحصها لمعرفة ملائمتها للبناء، بسبب أن التربة في هذه الحالات تكون مليئة بالأملاح، إلا أن الحلول موجودة لذلك”.
ويشير الشمري إلى أنه وبعد وضع الخطة “تم تقسيم قطعة الأرض لتحتوي على 25 داراً بحيث تكون الدار بمساحة 120 مترا مربعا، وذلك وفقا لأفضل مواصفات تصميم المنازل ومساحات الشوارع الجيدة”.
ولحد اليوم “صرفنا على المجمع كاملاً بمنازله وخدماته وشوارعه مبلغ 400 مليون دينار عراقي، لأن المنزل الواحد يكلف من 10 – 15 مليون دينار، وتم التسليم في بداية عام 2022، بحضور حشد كبير من مواطني مدينة بابل” يذكر سيف.
بفرح غامر تقول أم علي إحدى المستفيدات من المجمع السكني، والتي تسكن الدار رقم 19، “كنت أعيش في غرفة مستأجرة، والايجار يدفعه عني الخيرين من الجيران، فامتلاك بيت يأوي أيتامي كان حلما مستحيلا، إلا أن الأخوة في هذه المبادرة الخيرية أدخلوا السعادة لقلوبنا، وجعلونا نشعر بالطمأنينة والأمان”.
وترفع أم علي يديها بالدعاء “ارجو أن تكون اعمالكم في ميزان حسناتكم، وان تساعدوا الآخرين وتفرحوهم كما افرحتمونا، ونتمنى أن يفرحكم الله طول حياتكم”.
بينما يذكر مدير ناحية الشوملي السيد عادل نعمه الخيگاني أن “سيف عباس گطوف يقوم بواجب المواطن الحقيقي الذي يشعر بحاجة أهله وناسه لسقف يستظلون فيه، ونحن فخورون به وداعمون لمشاريعه بشكل كامل، فجميع دوائرنا الخدمية من ماء ومجاري وكهرباء مسخرة لإنجاز وإكمال ما يحتاجه في خدمته الإنسانية الكبيرة التي يقدمها”.
ويضيف “نحن بالمقابل نقوم بدورنا في ترميم المدارس وتبليط الشوارع وتقديم الخدمات للمدينة وبناها التحتية، فالحكومة المحلية تعمل بكامل طاقتها وجهودها، لكن تبقى قلة الأموال المخصصة عائقا أمام أي مشاريع نطمح إليها، فضلا عن عدم وجود الخطط الاستراتيجية من قبل الحكومة المركزية لحل أزمة السكن في مدينتنا وفي العراق بشكل عام”.
مشاريع جديدة وكبيرة
بعد أن قام “الشرطي القديس” بتوزيع 25 دارا في منتصف عام 2022، انطلق مباشرة بمبادرة ومشروع جديد يأمل أن ينتهي منه في نهاية عام 2023 لتسليمه إلى المستحقين.
“اليوم بدأنا بإنشاء مجمع سكني يستوعب 100 دار، بمساحة 130 متر مربع للمنزل الواحد، ووصلت نسبة الإنجاز إلى 75%”، يقول سيف.
ويضيف “كذلك قمنا بهذا المجمع الجديد ببناء مسجد، وملعب للكرة، ومركز صحي، وروضة أطفال، ومدرسة نموذجية مؤلفة من 12 صف دراسي”.
وبحسب “سيف عباس گطوف” فإن المشروع لم يواجه أي صعوبات أو معوقات منذ أن بدأ فكرته الخيرية إلى هذه اللحظة، بل على العكس كان الجميع متعاوناً معه، إلا أنه بحاجة لاستمرارية التبرع وتقديم الصدقات، ويدعو جميع العراقيين ورجال الأعمال وأصحاب الشركات إلى دعم مشروعه بالأموال أو بمواد البناء ليكمل ما تم التخطيط له بأسرع مدة زمنية، وتسليمه إلى العوائل المستحقة، ومن ثم الشروع بمجمعات أخرى.
“اسكان الأيتام وبناء الإنسان أمران مهمان جداً، والمشاريع هذه لا تختزل باسمي فقط، بل هنالك جنودا مجهولين ومؤسسات رسمية خلف إنجازه” يؤكد سيف.
ويختتم كلامه بالحديث عن حلمه الذي يرغب بتحقيقه خلال السنوات القادمة، “حلمي بناء 1000 منزل، تكون بمثابة الوطن للعوائل المتعففة بعموم مدن العراق، وأنا أثق أن الناس سوف يتبرعون، فلقد جربناهم كثيرا، وكانوا على قدر المبادرة”.
وتبقى أمنيته أن “يكون هنالك مبادرين ببناء أوطان في جميع المناطق، حتى نتكاتف لنجعل بلدنا بأبهى صورة”.