العراق: كتب/ طلال العامري
كثر الحديث عن منتخباتنا واتحاداتها غير الجدية بالعمل.. هنا نتحدث بلغة الجمع يعني كل الرعية والقيادة الرياضية أو الذين أصبحوا القادة ليس في “ليلة ويوم” وإنما عبر تخطيط مبرمج وقف خلفه (أتباع) كثر يتقلبون بين الفينة والفينة..!
ترى لماذا لا نفكر على الأقل كيف نلحق بركب الآخرين ونأخذ من تجاربهم التي أصبحت مثالاً للعالم المتقدّم..؟
العمل لا يحتاج إلى تاريخ وجغرافيا وعدد سكان وأحزاب كي يتم النهوض به..!
العمل يحتاج تخطيط ورؤى تتجاوز النظر تحت القدمين.. العمل يريد من يتطلّع إلى الأمام.. لا من ينظر إلى الخلف حتى اعوجّت الرقاب..!
علينا تحليل كل التجارب الإيجابية التي رأيناها لدى الدول (مجاورة وبعيدة) غنية وفقيرة.. ومحاولة اعتماد إحداها في البناء الصحيح..
لو سؤلنا عن رأينا الخاص وهذا لن يكون إلا بالأحلام لوجود (الخبل والداهية والمنافق)..!!
نجيب..
علينا اتخاذ خطوة غير مسبوقة وتتمثّل بتجميد كل النشاطات الرياضية العراقية.. واتحاداتها خارجياً لمدة سنتين على الأقل..
يتبع ذلك تجفيف منابع المال على كل الاتحادات ومن بينها القدم ويترك للأخير ومن يريد العمل مثله الاعتماد الكلي على الذات، يعني لا مال “حكومي” بعد اليوم.. كي نرى حقيقة العمل ومقارنة ما كان وما أصبح أو سيصبح عليه..!
وأن يكون هناك السعي الجدي إلى تشكيل هيئات مؤقتة “غير طامحة لكراسي” كي يتم ترتيب كل مفاصل الاتحادات والرياضة العراقية من الألف إلى الياء والاستعانة بأناس لم يتواجدوا في أي اتحاد أو أولمبية في السنوات الـ(١٥) الأخيرة وما قبلها.. يعني وضع أسس غير ملوثة مع احترامنا لكل الأسماء التي عليها الإيمان بالقول.. لا تربط الجرباء قرب الصحيحة……….. نجزم أن الجرب طال كثيرون وإن كان هناك من لا يرغب الحديث علناً خشية أو خوفاً أو تملقاً..!
عقب السيطرة الفعلية على الاتحادات والأولمبية، يبدأ التحرّك الجدي على جميع إدارات الأندية من أقصى الوطن إلى أقصاه.. وأيضاً تكون هناك تسمية لهيئات مؤقتة تعمل على ترتيب الهيئات العامة الحقيقية وليس (العائلية والعشائرية) مع الإسراع بتشريع قانون الأندية ومراجعة وتعديل قانون الاتحادات ليصبح أكثر حصانة وشمولية من حيث نصوصه وفقراته التي تحتوي كل ما يحتاجه الرياضي وليس الدخلاء “فقط” وتكون هناك فقرات مشددة تحمي المال العام (المباح) للطامعين..!
ثم يكون الصعود لتصحيح مراكز القيادة.. أولمبية وحتى وزارة بنوايا نظيفة وليست انتقامية (شخصية) وبشروط أبرزها القضاء على المحاصصة والطائفية وهي موجودة رغم إنكار البعض (القليل)..!
نعم توضع شروط أهمها: منح العراقي ابن الداخل الذي لم يتم تهجينه أو تهجين أفكاره بأشياء، كما هو حاصل مع القادمين من بلاد الله المختلفة، كي يعملوا على تحسين الأوضاع فأساءوا وأضاعوا المشيتين..!
نكذب حين نقول بأننا لم نساهم بمجيء عديد الأسماء التي كانت في الخارج (تحت جميع الأوصاف والمسميات).. ترى ماذا قدمت تلك الأسماء لغاية اليوم وماذا نقلت لنا من تجارب عايشتها أو ساهمت بها هناك..؟
الجواب لا شيء في لاشيء وما كان لدينا هو الآخر تلاشى وأصبح لا شيء.. والسبب لأن من جاء من (بَرْه) لم يفكر الا بمصالحه الشخصية فقط والدليل هو اغتناء أغلب أولئك بصورة (انفجارية) نتحدث عنها في كل مجالسنا ولا نقدر أن نحاسبها لأنها مصنّفة عن كونها (ثورية ومضطهدة) ويجب أن تنال مايعوّضها عن سنين الحرمان التي عايشتها هذه النوعيات من (الثوريين) الرموز..!
كنت في حديث مع زميل صحفي، خضنا من خلاله بشتّى المواضيع.. سألته مباغتاً وقلت: يا عزيزي كان العراقي المغترب أو الهارب في السابق هو من يقوم بعملية تحويل المال إلى أهله ومعارفه حتى رحنا نحسد من لديه ابن أو قريب يعيش في أرض الله الواسعة.. غربها وشرقها.. جنوبها وشمالها..
ماذا حصل اليوم ليأتي ذات العراقي وبدل أن يجلب ما لديه من مال هذا إن كان لديه إلى بلده، يقوم هو بجني المكاسب والمنافع من الوطن ويبدأ رحلة تكديس المال وتحويله إلى الخارج (علناً أو مستتراً)..!
ونبقى نحن كما نحن نتحسّر على كل شيء..!
كيف لا و(المناضل) يحق له ما لا يحق لغيره وهذا شجّع عديد المغتربين (ليس كلهم) لتجريب حظوظهم (القوية) والدليل كل من اغترب وقرر العودة إلى العراق بعد تأمين أسرته في الخارج راح (يكدح) ويجمع ويصدّر المال الذي يجمعه مستثمراً (نضاله) الذي يبيح له كل شيء والنضال انواع ودرجات وكل واحد حسب الجهة التي تدعمه..!
ليس في الرياضة حسب يجري ذلك وإنما في المجالات الأخرى..
نرى غالباً الهدم لكل ما كان وحين يضع البعض الطابوقة الأولى والثانية نجد من يخلفهم يبادر لقلع الأساس وما عليه كي يبني من جديد والعملية لا تحتاج لفك الطلاسم، لأنها مكشوفة.. كل بداية من الصفر تعني أرباح جديدة وهلمّ جر بالهدم والبناء غير المكتمل الذي سيهدم..!
نطالب اليوم بعملية التصفير الشاملة، لأننا مللنا من كثرة عمليات الهدم المبرمجة التي ولد معها أسماك تحولوا إلى حيتان راحوا يبتلعون كل شيء ومن يدري مصيرنا معهم نحن أيضاً.. هذا إن لم يبتلعوا أثرنا ليجهزوا على كل شيء في اللاشيء الذي يتاجرون به..!
قلنا نحن نتكلّم بالرياضة وهذه نقاط يمكن البدء بها وبعكسه لا حياة مستقرة للرياضة العراقية وعلى مدى ألف سنة قادمة لأن الترقيع صحيح انه يسدّ الفتحات وقتياً و(يزغلل العيون) ولكنه يتسبب بمضاعفة الوزن حتى يصعب استخدام (المرقوع) شبيه (نعل ابو القاسم الطنبوري)..!
تمعنوا.. هذه ورقة عمل صغيرة لا تحتاج إلا لمن يقوم بتفعيلها بـ”عراقية” أصيلة..
معقولة لا يوجد أصيل في البلد؟ ويجب أن نستعين بمن هم في الخارج فقط..؟!.. ثم من يقود الحروب على أبناء الوطن رجال (الحصّة والبطاقة التموينية) ضحايا الحروب الأبطال الذين صبروا على الضيم وغيرهم ينعمون بتناول شتى أنواع الطعام الشرقي والغربي..؟
ولأننا لازلنا نثق بالبعض من القلّة القليلة المتواجدة في الميادين المختلفة، يحدونا ليس “أمل” لا يتحقق بل “رجاء” أن نرى الشروع بالخطوة الأولى التي تعني الكثير، إن تمّت وفق منهاج حقيقي حكومي أو غير حكومي، لكن السند لابد له أن يكون حكومياً بصلاحيات مفتوحة على الآخر..!
يسألنا البعض عن الأسباب التي دفعت بنشر كرة القدم وتطويرها في العراق من السبعينيات صعوداً لفترة (قُبرت) لاحقاً..
الجواب بسيط جداَ وهو.. قيام من أداروا رياضة كرة العراق بتوزيع عدد من المدربين.. نوضّح (مدرب حقيقي خط ونخله وفسفوره) على أغلب محافظات جمهورية العراق وأولئك المدربون منحوا درجة “وزير” من حيث الصلاحيات فـ”أنتجوا” المواهب والفرق وكيانات الأندية بفترات وجيزة جداً، لكنها محسوبة.. لأنهم ساروا بطرائق ومناهج صحيحة بلا أي متعرجات ومنغصات وتجاوزات على المال العام.. على الرغم من قيام البعض (المريض) بضرب التجربة بالصميم بإبعاد أندية المحافظات والنفخ بفرق العاصمة وتضخيم عددها والتوسّع على المؤسسات ذات الدخول الكبيرة والجماهير القليلة.. ليضيع بعدها ثلاثة أرباع الوطن رياضياَ بسبب المنافقين غير الناصحين الذين رسّخوا المجال للمؤسسات التي كان أغلبهم يرتبطون بها وينتفعون من خلفها..!
نحن نفتقد للّبنة السليمة إلى هذا اليوم.. لأن عصر المصالح الذي كان (الأساس) سابقاً هو من جعل أعدادهم (المنتفعين) تتضخّم وتبتلع غالب الأشياء وبدلاً أن تذهب أقيام الدعم إلى محتاجيها، دخلت علناً في الجيوب (الوريثة) متحوّلة لملكيات خاصة وهي (العامة)..!
من زمان نتحدث ونشخّص.. هل وجدتم من كان بالقادر على فتح ملفات فساد أهل الرياضة الذين نعرفهم من المهد (لحيميه) وقدراتهم التي تنامت بعد فترة وهي تسلب وتسرق المال العام خفيةً وعلناً..؟
هنا لا نتحدّث عن نفر ممن هم عاشوا في الداخل حسب وإنما من قدموا من بلاد الله المختلفة الذين حصّنوا أنفسهم بجوازات وجنسيات (بديلة) تتيح لهم فعل كل شيء رغم أننا نعرف قدراتهم وإمكانياتهم التعبانة في بلدان المهجر التي سيهربون إليها من جديد..
أحدهم وبفضل تواجده في السنوات القليلة الأخيرة داخل الوطن، استغل الفرصة فسدد ثمن القصر الذي اشتراه في الغرب (أمريكا) وانتقل من شخصية بالكاد تعيش يومها في المكان الذي قدمت منه إلى (هبل) جديد في العراق تحجز موعد لتقابله..!
ترى كم شخص من هذا النوع أصبح يعيش معنا وبيننا وأصبحنا نخشاه لأنه (مناضل) وأغلبهم ليسوا كذلك..!
مفلس آخر خسر كل ما لديه وصل العراق كفاتحٍ.. سنوات.. أعاد تكوين نفسه من جديد وانتفخ أكثر مما كان عليه قبل الإفلاس.. من سأله أو حاسبه.. لا أحد.. والأغلبية تصرخ نريد الإصلاح َنحن مع الإصلاح والإصلاح يصرخ باكياً ويقول انا كذبة تم استغلالها أدعياء الإصلاح وتجّاره.. انقذوني قبل فوات الأوان..!
ترى لماذا تسكت الدولة ومن يحمي هؤلاء الذين تناسخوا ليكون لدينا مافيات في الرياضة وفروعها تناطح وتتفوّق على ما كنا نسمع عنه او نشاهده في الأفلام الإيطالية والأمريكية سابقاً وما استحدث بعد تناثر عقد الاتحاد السوفيتي.. وظهرت مافيات روسية وأوكرانية ووووو وبتنا نرى بعد ضعف العراق مافيات عراقية تصل بالعدد كل مافيات العالم..!
هل تنكرون ونجد من يقول لا يتواجد هكذا مافيات في العراق..؟
ربما نسمع ذلك، لأن أرض النفاق (حبلى) سفاحاً وكل فترة تطرح لنا ابن (حرام) منافق مداهن..!
البعض يعتقد أننا لن نتخلّص من لغة التشاؤم التي أصبحت مسيطرة علينا.. له ولغيره نقول..
“دخل عنترة بلادي فاصطاد كل الطيور.. ذبح الحرية أمام الجميع سرق الغناء من العصافير.. ترك الأشجار عارية من الورق وسكن في أجمل القصور.. كل نساء بلادي ورجالها جواري لعنترة.. وفراشه لا تنقطع منه رائحة العرق والبخور.. كل الرجال والغلمان ركّع وسجود يضربون على “القفا” والمؤخرات.. يموؤون كالقطط في كل أوان محكومون بلذة (ذلْة) الخنوع أو خوف القنوط..!
كلها تهاب عنترة الجسور..
الأطفال لا تنام من صوت سيفه أو حركات “رمحه” الطويل خارق الممنوعات وفاتح الفتوحات..!
لسيفه صوت جهور ولحدّه فعل يقولون عنه سلسبيل “ماء طهور” ..!
كل يوم يذبح منهم الألوف بحضرة الشهود “العدول”.. مرّت شفرات السيف.. أناخت الحمام ولم تسلم النسور والصقور..
كلهم يشاهد يراقب.. بعضهم يهتف لعنترة والأخير يلوّح لهم كأنه على خشبة مسرح ويتعالى تصفيق الجمهور.. والصوت يتبعه (بالروح بالدم نفديك نفديك “يا هو الجان” الكان)”..!
أليست هذه هي أرض مسرح الرياضة العراقية وصولاً للتي أكبر في الوطن..؟
يحكى عن قومٍ سكنوا شبه الجزيرة العربية من عصور غابرة، يحكمهم أمير شاب ورث الإمارة عن أبيه (شيخ العشيرة)..
كان للأمير حاشيته الخاصة ومن بينهم رجل” منافق” حدّ النخاع.. كان هذا الرجل وبسبب نفاقه الخارق للعادة من المقربين جداً عند الأمير، لأنه يسعده ويؤنسه دائماً بما يريد أن يسمعه..
عند الأمير راعي يلقب بـ “الخبل” وهو اسم على مسمى يعني لديه (خلل عقلي) فأسموه “الخبل”..
صعبت الحياة عليهم يوماً وجفت أرضهم من الماء والعشب، فكان لابد لهم من الرحيل عن ديارهم والذهاب إلى ديار يجدون فيها مسببات عيشهم و قطعان ماشيتهم..
خرجوا يفتشون عن الأرض الأنسب والأفضل لنجاتهم، لم يجدوا سوى أرض جميلة جداً مليئة بالخيرات، وكانت خالية من السكان.. أصابهم العجب والذهول.. كيف تترك هكذا أرض؟
كان معهم رجل طاعن في السن يمتاز بالحكمة والمعرفة وله دراية بالمناطق، اقترب منهم عندما وضعوا رحالهم وهموا باستيطان تلك الأرض.. ناداهم الرجل الحكيم وأخذ يخبرهم بأنهم باتوا في أرض (داهية) ونصحهم بعدم الذهاب أو الاقتراب من الجبل فهو للعجوز (داهية) و طالبهم أن لا يؤذونها لأنها شريرة ويمكن لها أن تمحيهم عن بكرة أبيهم..!
هذا ما كان يعرفه وأخذه (نقلاً جيلاً بعد جيل).. سمعوا كلامه ووعدوه بالالتزام بكل حرف نطقه..!
لسوء الحظ لم يكن (الخبل) معهم ليسمع الكلام والقصة والنصيحة التي أطلقها الحكيم..!
كان (الخبل) يقود الغنم على مبعدة، لم يخبره أحد عن “داهية”.
تمرّ الأيام والأشهر على بقائهم في تلك الأرض.. وكان ( الخبل ) يقضي جلّ الوقت مع الماشية.. أليس هو من جعلوه الراعي الأبرز للغنم، وبات المسكين نادراَ ما يأتي إلى الديار أو يذهب اليه أحد..!
ليس لديه أب ولا أم ولا عائلة.. لاتوجد له أي مصالح في الديار الجديدة باستثناء القدوم للسلام على الأمير بالشهر مرة وإخباره عن أحوال الماشية.. أليس هو راعي الماشية (الأميرية) وبقية مواشي القوم وهذا اللقب وحده يشعره بالعزّة والأهمية..!
في يوم مرّ الراعي ( الخبل) إلى الديار، كي يخبر الأمير عن أحوال الماشية.. ولسوء حظه لم يجد الأمير الذي كان خارج الديار بصحبة الرجل الحكيم..!
وجد القوم يجلسون في بيت الأمير ومن ضمنهم الرجل (المنافق).. اجتمعوا على وجبة دسمة من الطعام رغم عسر الحال..!
سألهم “الخبل” من أين لكم هذا ولماذا لم تخبروني؟
كان يشعر أن حالة الفقر والجوع شديدة وبالكاد يأخذون منه كل فترة رأس ماشية ليقتاتوا به.. فمن أين يأتون بطعام كهذا..بقي يسأل بإلحاح..؟
ولكي يتخلصوا منه أجابه المنافق.. فقال: أتريد مثل هذا الطعام؟ قال ( الخبل ) نعم بكل تأكيد.. قال له المنافق.. إذا صعدت قمة هذا الجبل وأشار إلى جبل ( داهية) وأصبحت في قمته، حيث تلوّح لنا ثم تعود أدراجك نحونا.. فإذا فعلت هذا سنذبح لك ذبيحة كهذه..!
فرح الخبل بالجواب.. همّ مسرعاً يريد صعود الجبل، فاتجه نحوه والقوم يراقبون ويضحكون عليه، لم يفكروا بأنه إنسان ووجب عليهم أن يخبروه بالحقيقة.. بل تمادى بعضهم ممن توقعوا له النهاية عند اقترابه من (داهية) وأخذوا يشجعونه حسب توجيه (المنافق)..!
صعد (الخبل المسكين) الجبل والقوم يرونه يقترب رويداً.. رويداً من حتفه وهم يضحكون عليه ولا يبالون لأنه.. أليس هو (خبل) يعني مجنون ولا احد سيقف خلفه أو يطالب بديّته..؟
فيما هم على ما هم عليه من الحال ينظرون ويضحكون اختفى (الخبل) عن أنظارهم..
لم يستطيعوا رؤيته لأن (المجنون) في تلك اللحظة أصبح داخل كهف ( داهية) ومن يدري بالذي يحدث..
فوجئ القوم بقدوم اميرهم نظر إليهم، شاهدهم يضحكون وهم ينظرون ويشيرون إلى الجبل..!
سألهم.. ما بالكم؟
أجابوه: انظر إلى (الخبل) انه يحاول صعود الجبل..
الأمير ما الذي دعاه إلى صعود الجبل؟
تطوّع المنافق للإجابة فقال: أنا أيها الأمير..
الأمير: ألا تعلم بأن داهية في هذا الجبل
ومع ذلك أرسلت هذا الخبل إلى حتفه..
ردّ المنافق: يا أمير.. نحن لا نعلم هل داهية مازالت على قيد الحياة أم أنها ماتت منذ زمن بعيد، فإذا عاد الخبل سالماً ولم تعترضه داهية، فمعنى هذا بأنها قد ماتت.. وبامكاننا الاقتراب من أسفل الجبل، حيث تكثر المراعي والأعشاب النادرة بسبب عدم اقتراب الرعاة خوفاً من تلك العجوز المتوحشة (آكلة لحوم البشر). وإن لم يعد فهو (خبل) لا فائدة منه ولا أهل له..
أصيب الأمير بالخرس لأن لسان المنافق المعسول أقنعه..!
سكت الأمير برهة وأخذ ينظر إلى الجبل..
لم يضحك كحال قومه، إنما ينظر باستعطاف كله أمل أن يعود ( الخبل)..
وعلى ما هم عليه من الضحك والنظر إلى الجبل، عمّ صمت رهيب وذهول عجيب وغريب..!
رأوا رجلاً يرتدي ثياباً بيضاء يخرج من الكهف على العكس من راعيهم الذي كانت ثيابه متسخة وممزقة وهو يصعد أعلى قمّة الجبل.. ثم يلوّح بيديه تجاه القوم..!
أخذ هذا الرجل بالنزول، حتى اقترب من القوم إلى أن وصلهم..!
كانوا يتساءلون.. يا ترى من يكون هذا الرجل؟
عقدت ألسنتهم.. إنه ( الخبل) بشحمه ولحمه.. نعم إنه الخبل ومعه سيف ودرع، بالإضافة إلى الكثير من الحلي الذهبية والجواهر..
حال وصوله.. أخذ يسلم على الأمير، ثم أعطاه ما في حوزته من السلاح والذهب والمجوهرات..!
سأله الأمير كيف أتيت بهذه الأشياء؟ أخبرنا ماذا جرى لك عندما اختفيت في كهف الجبل؟
قال (الخبل).. عندما توسطت الجبل وجدت كهفاً مهجوراً..
دفعني الفضول إلى الدخول فيه..
عندما اقتربت من مدخله.. خرجت لي عجوز مرعبة وهي تهددني بالقتل وأنها ستلتهمني..
عندما همّت بالهجوم عليّ أخذت صخرة كبيرة وقذفتها بها، فأصابتها في رأسها بالتحديد أسفل أذنيها فماتت..!
قال الأمير: قتلتها؟
ردّ ( الخبل ).. نعم قتلتها، ثم دخلت الكهف ووجدت فيه أنواع الكنوز من ذهب وفضة وسلاح وها انتم ترون ما حملت وهناك الكثير..!
عندما سمع المنافق قول المجنون، همّ هو الآخر واتجه مسرعاً نحو الجبل، لكي يستحوذ على ما يريد من ذهب وفضة وجواهر والقوم من خلفه يجرون صوب الكهف أيضاً يريدون جانباً من الغنائم..!
حال اقتراب المنافق من فوهة الكهف.. وجد العجوز (داهية) في وجهه..
أراد الرجوع من حيث أتى.. لكن لا مجال للهروب..
هجمت عليه وبضربة واحدة قتلته شرّ قتلة وبدأت تلتهمه بتلذذ والقوم يرتعشون وهم ينظرون للذي يحدث بذهول..!
رجع القوم بسرعة تجاه أميرهم والخوف يسيطر على قلوبهم..
اخبروه بان الرجل المنافق قد قتل وذبحته (داهية) وكان هذا الرجل المنافق كما أسلفنا من المقربين لدى الأمير.. بل كان الأعزّ بسبب (نفاقه)..!
نظر الأمير إلى (الخبل) نظرة غضب.. وقال له كيف تكذب علينا يا (خبل) انظر نتيجة عملك..!
ردّ الخبل: أنا لم أكذب بل قتلتها.. وإذا كنت تريد مني أن أتي بتلك العجوز فأنا مستعد..
أعطني الحصان، كي أتيك بها..
أعطاه الأمير جواده الأصيل ليتبين حقيقة أمره وهل هو صادق فيما يقول أم لا..
امتطى صهوة الجواد وذهب نحو الجبل.. الجميع يراقبون بذهول,.
قال الحكيم قولته المشهورة: يا أميرنا ( لا تأمن الخبل يأتيك بداهية)..
عندما وصل الخبل مشارف الكهف فوجئ بوجود داهية وأنها على قيد الحياة..
فزعت “داهية” عندما رأت الذي سبب لها الرعب قبل فترة وجيزة وكاد أن يقتلها..
قالت له بخنوع: دعني وشأني وخذ ما تريد من جواهر وحلي..
أحسّ من جوابها أنها خائفة منه..
تجرأ وقال لها: أن الأمير طلب مني أن أتي بك ليتبين حقيقة أمرك.. ستذهبين معي وإلا قتلتك؟
فزعت (داهية) من جواب الخبل وقالت: سوف أذهب معك بشرط أن لا تؤذيني..
قال: لك ذلك.. (على فكرة الخبل لا يؤتمن ولا تعرف سريرته)..
اركبها الجواد أمامه وانطلق..
عند الوصول، دبً الفزع والرعب في قلوب قومه.. تعالت صرخات الأطفال وعويل النساء واستنفر الرجال.. كان شكلها قبيحاَ ومرعباً..
أمرها أن تنزل.. نزلت وهي أكثر خوفاً مما سبق..
ساعتها نطق الحكيم من جديد، موجهاً كلامه إلى الأمير:
ألم أقل لك ( لا تأمن الخبل يأتيك بداهية)!!
فصارت مضرب مثل.. وأصبح الخبل هو الكل بالكل ومن خلاله يقود الأمير شؤون الرعية.. لأن من استطاع قهر داهية يمكن له سحقهم بسهولة..
والداهية في وقتنا الحالي تعني المصيبة أو الكارثة.. وكم من الدواهي و(المجانين) بيننا ونحن لا نعلم..؟
لا يتوقف بعض الأشخاص من حولنا عن ممارسة أشكال مختلفة من النفاق، بعضهم بات يمتهن النفاق كوسيلة للعيش، وآخرون يمارسونه لأنهم لا يتحملون العيش خارج دائرة الزعماء والأغنياء الباحثين عن حاشية من المنافقين… ومما قرأنا يظهر أمامنا ما أورد الأديب المصري يوسف السباعي (1917- 1978) في روايته “أرض النفاق” ما يمكن اعتباره تبريراً من منافق، قائلاً: “ليس الذنب ذنبي. إنه ذنب الذي سكب النفاق والغش والخديعة في النهر.. فماذا يفعل ذو مروءة بين اهل الخداع في أرض النفاق؟”.
فيما يرصد الأديب الإنكليزي أوسكار وايلد (1854- 1900) شخصية أخرى يمكن اعتبارها المضطرة إلى النفاق: “هناك لحظات يجب على المرء فيها أن يختار بين أن يحيا حياته بالطريقة التي يريدها بحرية تامة، وبين أن يتم جرّه ليحيا حياة ضحلة كاذبة تتطلب الكثير من النفاق والمداهنة للاستمرار”.
ولا يتوقف النفاق على الأشخاص، والمجتمعات تنافق أيضاً، ونفاق المجتمع أخطر من نفاق الأفراد.
وعبّر عن ذلك المفكر السوري عبد الكريم بكّار قائلاً: “إذا كان قانون علم الفيزياء يقول إن الضغط يولد الانفجار، فقانون علم الاجتماع يقول إن الضغط يولد النفاق”.
ومن مأثورات الفيلسوف والزعيم البوسني علي عزت بيغوفيتش (1925- 2003)، أن “النفاق زيف أخلاقي يبرهن على قيمة الأخلاق الصحيحة، مثلما هو حال النقود المزيفة ذات القيمة المؤقتة مقارنة بالنقود القانونية ذات القيمة الدائمة”.
ورغم أن النفاق مستهجن في كل الأديان، والمنافق مذموم في كل الأعراف، إلا أن النفاق بضاعة رائجة، وزبائنها غالبية الزعماء والأثرياء أو من امتلكوا الأشياء في غفلة من الزمن.
في كتابه “على حافة الانتحار” يقول المفكر المصري مصطفى محمود (1921- 2009): “الزعيم الذكي هو الذي يتخطّى ضجيج الهتاف والتصفيق وبطانات النفاق والتسبيح من حوله، وينظر إلى ما وراء كل هذا المنصب الكاذب الذي يصنعه الخوف والأطماع. إلى يوم موته، وما بعده”.
لكن يوسف السباعي يخالفه، قائلاً إنه في حال غياب المنافقين، فإن: “الحكام سيكونون أشد الناس غضباً، فهم أكثر الناس انتفاعاً من النفاق، فما ستر زيفهم سواه، وما حجب خداعهم غيره. إننا قد نحرمهم من خير بضاعتهم..
البضاعة التي بفضلها استطاعوا أن يكونوا حكاماً وأسياداً علينا…
هل يمكن أن تتصور حكاماً بلا نفاق؟ تصور وقتها رأيهم في الرعية، ورأي الرعية فيهم”.
وقد ختم السباعي رواية “أرض النفاق” بتلخيص معبّر، قال فيه: “يا أهل النفاق تلك هي أرضكم، وذلك هو غرسكم. ما فعلت سوى أن طفت بها وعرضت على سبيل العينة بعض ما بها. فإن رأيتموه قبيحاً مشوهاً، فلا تلوموني بل لوموا أنفسكم. لوموا الأصل ولا تلوموا المرآة”..
لا تلوموا (المرآة) لأنها صادقة وتريكم حقيقتكم وأين تتخفون من الواقع..
نحن نحكي عن الذي يجري في رياضة وإن خرجنا عن حدودها فالله وحده يعلم كم من المنافقين والأسياد علينا أن نواجه لوحدنا، لأن الرعية لم تعد كما كانت حرّة بل تابعة ويحرّكها إما منتفع أو منافق.. وهؤلاء سوقهم رائجة وتسيّدوا الساحة التي باتت لا تتسع الا (الطليان) الذين وضعوا عليها (خبل) يعتقدون أنه سيأتيهم (بداهية).. رغم المصائب التي هم فيها..
دمتم ولنا عودة هذا “إذا ما صار شي” أو التحقت داهية بالأمير الجديد القادم من بلاد الواق واق ليدير شؤون أهل الدار المتصارعين على لقمة، لتأكلهم داهية أو تضعهم تحت أقدام الخبل قبل الأمير..!