فاطمة غانم جواد _ بغداد
جهودٌ صحفية وممارساتٌ مهنية شقت طريقها نحو استقصاء الأحداث وكشف ما وراء الحقائق المُغيّبة خلف قضبان الرأي العام لكن الصحافة الاستقصائية بدأت تتأرجح مابين المد والجزر حيث ترتفع مناسيب الحقائق العلمية والادلة والوثائق للمواضيع الشائكة والمبهمة وهذا ما يدفع بهذا النوع من الصحافة بالتقدم وأعطاءها الفرص لتثبت نفسها في قالب التحقيق الاستقصائي ليبرز في اهميته الفائقة من بين الفنون الصحفية المتعارف عليها كالمقال والخبر والتحقيق الصحفي ، كون الاستقصاء لا يدخل في هذه الفنون لأن المعلومات الاستقصائية لا يمكن تمريرها وإقناع الجمهور بها في خبر قصير أو عمود صحفي، في حين تنخفض مناسيب الحماية اللازمة للصحفيين والقوانين الداعمة لهم للعمل في أجواء من الاطمئنان والدعم المهني وهو ما أثار حفيظة جميع المهنيين والعاملين في مجال الصحافة الأم.
وبذلك فإن استقرار هذا النوع من الصحافة سيما في العراق هو إنعكاس لإستقرار الوضع السياسي للبلد وكما هو متعارف عليه فيما يشهده البلاد من صراع السلطة والأحزاب السياسية التي جعلته يعاني من انعدام الاستقرار مما هيأ وسيلة لظهور الوثائق والأدلة التي تظر بالمصالح السياسية وتكشف نواياهم المخبأة خلف كواليس الحكم السياسي فكانت حياة الصحفي هي الثمن الذي يدفعه حين يستقصي الأحداث وحقائقها ويكشف ويعلن الوثائق للرأي العام وبذلك فأن الصحافة الاستقصائية وان كانت محاولاتها ناجعة للمجتمع فهي ذات خطورة على الصحفي الذي يمارس مهنته في مجتمع يعاني الارباك في الاستقرار السياسي ومايترتب عليه من آثار وتداعيات مستقبلية على الصحافة عموماً والصحفي خصوصاً .
ضحايا التحديات ..
وللحديث أكثر عن ذلك كانت المقابلة الأولى مع أ.م. د. خالد ستار القيسي عميد كلية الاعلام في الأكاديمية الأمريكية الدولية للتعليم العالي والتدريب، بداية رؤيتي للصحافة الاستقصائية انا كمتخصص بالأعلام اعتبر الصحافة الاستقصائية ضرورة ملحة ذلك للحاجة الماسة لكشف المستور واحيي كل العاملين بهذا النوع من الصحفة على شجاعتهم، اما اهم المعوقات التي تواجه هذا النوع من الصحافة من وجهة نظري هي المعلومات المخفية المراد اظهارها الى العلن وكيفية الوصول اليها وسيطرة اصحاب القرار على مخفيات الامور اذا كانت تتضارب مع مصالحهم ،اما اهم الفوائد فهذا النوع من الصحافة حقيقة يمر بحقول من الالغام ذلك لأهمية المعلومات التي سيحصل عليها الصحفيون في هذا المجال من هنا تأتي اهمية الصحافة الاستقصائية لأنها ستكشف المستور الذي ينتظره الجمهور بفارغ الصبر، وأكد أنه لم يحقق هذا النوع من الصحافة اي نجاح عندنا بالعراق وكل من يحاول ان يستقصى عن امور اغلقت من احدهم يكون مصيره مظلم كما هو الحال بالشهيد هشام الهاشمي لان اخفاء الحقائق عن الجمهور تكون عادة من قبل المتنفذين بالسطلة ..
تخطي المستحيل..
ثم كانت المقابلة الأخرى مع الصحفي سيد عباس العيد واشار انه قد يكون العمل الاستقصائي حديث الظهور بشكله العام ومضمونه المبني على القصص والفرضيات والأسس العلمية والتنقيب والبحث في العمق ، لكن الحقيقة هذا الفن كانت له جذور قديمة مع ظهور الصحافة التقليدية ، حيث كان الصحفي قديما يقدم عمله الصحفي على إنه تقرير او تحقيق او حتى مقال تقليدي وعندما تتقرب منه تجد جوهره إستقصائي عالي الجودة بحضور الأدلة والوثائق وما يلزم من أدوات إستقصائية حقيقية ،وتبقى “الصحافة الاستقصائية” مصدرا موثوقا للحقائق بالرغم من قلة دعمها ومحاربتها في دول عديدة ومحاولة تغييبها لستر بعض الفضائح التي من شأنها أن تطيح برؤوس كبيرة متورطة بالفساد ، إلا إنها استطاعت نوعا ما أن تفرض نفسها رغم الصعوبات التي تواجهها ، ونجحت بتجاوز اغلب انواع الرقابة بعد أن شيدت لنفسها جدار أسمه الحماية القانونية فهي لا تخطي خطوة دون معرفة موضع تلك الخطوة قانونا ،كذلك المتكأ الأعظم لها هم المناصرين لها من المظلومين أصحاب الشأن في مثل تلك القضايا ومن هذا المتكأ تمكنت بالفعل من تحشيد الرأي العام بالضغط على صناع القرار واحدثت تغييرات جذرية في القضايا والملفات المطروحة ، ولكن .. هناك تفاوت بظهورها الطبيعي الحقيقي على مستوى الكرة الأرضية ، والقصص الإستقصائية كثيرة بهذا المجال، أول الصعوبات التي تواجه الصحفي في مثل تلك الصحافة إستسقاء المعلومة من المصدر ، أي مع أبطال القصة وطريقة التحرك عليهم كإختيار الوقت المناسب والمكان الملائم ، مع التحفظ على أمور مهمة كالإبتعاد عن الكذب على المصدر من اجل كسب المعلومات فقد يخسر الصحفي الإستقصائي المصدر والقصة الإستقصائية برمتها ،ويمكن استخدام وسيط للتقرب من المصدر والتعايش معه وتقمص دور المراقب ، كذلك احيانا يتغلب ذكاء أو سرعة بديهية الصحفي في مثل تلك الصحافة على المصدر ومن خلال حنكة الصحفي الذكي سيدلي المصدر بكل معلوماته ، حيث يمكن مثلا أن يبين الصحفي للمصدر بأنه يعرف القضية بما جرت ولقائه به مجرد تحصيل حاصل وهنا يكون اللقاء بين الصحفي والمصدر وكأنه تبادل معلومات وحديث ودي ،أما فائدتها للصحافة الأم فلا يختلف أثنان على أن تلك الصحافة قد أنجزت طريق معبد لعبور الصحافة التقليدية نحو طرح ما كان مستحيل الكتابة فيه ، فليس بالضرورة أن تكتب الصحافة التقليدية عن قضايا قد أخفيت عمدا من السلطة او شخص معين بأعتبار هذا العمل يخص الصحافة الإستقصائية ، ولكن يمكن لها أن تدلو دلوها عن قضايا قد أخفيت عن طريق الخطأ دون تعمد ،قطعا الصحافة الإستقصائية في الدول المتقدمة حققت نجاحات بشكل ملموس لوجود بيئة عمل ملائمة لمثل تلك الصحافة كذلك الانفتاح والتحرر الصحفي في تلك البلدان ، وهذا ما بان جليا بعد أن أصبحت تلك الصحافة تتصدر الصحف الأمريكية وأهتمت بها وكالات عالمية كبيرة مثل وكالة ” اسوشيتدبرس” التي استحدثت قسم خاص بالتحقيقات الإستقصائية عكس الدول المتخلفة المغلقة التي تملك قادة فاسدين الذين دائما ما تجدهم يحاولون ستر عيوبهم وإخفاقاتهم .
حريات مُكبلة ..
فيما كانت المقابلة الأخرى مع عادل المالكي رئيس شبكة الصحافة الإلكترونية العراقية إتحاد الصحفيين العراقيين وأكد ان الصحافة الاستقصائية ليست جديدة فهي ظهرت منذ سبعينيات القرن الماضي وبدأت من خلال تحقيقات حول شركات تلاعبت بالمال العام ضمن قارة أمريكا بالتحديد في عام ١٩٦٨ وتطورت لدعمها اللامحدود الذي قام به أصحاب الصحف والمجلات آنذاك ،اما بالنسبة لوقتنا الحالي شملت الصحافة الاستقصائية جميع الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الا انها تعتمد وبشكل فاعل على الدعم والحماية كونها تمس وجودية الموضوع او المهمة التي يتم عنها الاستقصاء وبذا يكون اليوم التحقيق الاستقصائي متأثرا بالأوضاع وكذلك الجهة التي تدعم هذا او ذاك من الصحفيين الا ما ندر،اما المعوقات التي تعترض سبيل إتمام التحقيق الاستقصائي اليوم يرجع إلى قانون الحماية الخاص بالصحفيين وكذلك قانون حرية التعبير فلا يمكن إتمام اي تحقيق دون أخذ الحرية الكاملة بتحديد المهمة والأسئلة والسرية والحيادية في طرح المواضيع وان قانون الحماية لم يفعل أبدا طالما هناك جهات غير رسمية وغير حكومية تمتلك القوة والسلاح لمنع او تحييد اي صحفي، الحقيقة عبثا نحاول أن نرسم مستقبلا لهكذا نوع من الصحافة في العراق فكثيرا ما راح ضحيتها من يكشف سرا في سرقة او تجاوز او تآمر في بلدنا والأمثلة كثيرة على ذلك، الا انه هناك الكثير من التحقيقات ظهرت للعلن وأثرت في الرأي العام مجمل التحقيقات التي حققت رأي عام هي ما يخص الفساد المستشري في مفاصل الدولة والمجتمع الا انه وجود المحاصصة والجميع مشترك في الفساد حال دون أن تتخذ فيها قرارات قاطعة وأذكر لكم مثالا على ذلك هو موضوع فساد الوقفين الشيعي والسني والتلاعب في العقارات والاراضي التابعة لها ولم يتخذ قرار غير نقل أو إعفاء من منصب،في النهاية أقول أن التحقيق الاستقصائي له جوانبه الرمزية والجدية في إيصال المعلومة بعد الإحاطة الكاملة عن المهمة الموضوعة ولها تأثيرها البالغ في المجتمع عند توفر الظروف اللازمة للتنفيذ.
قوانين مُهمشة..
واخيراً تمت إجراء المقابلة مع الدكتور محمد الحديثي استاذ الاعلام الدولي و عميد الاكاديمية البريطانية الدولية للدراسات الاعلامية في العراق، وأشار إلى أن الصحافة الاستقصائية هي من أهم أنواع الصحافة ولها دور كبير في المجتمع ولها تاريخ ليس فقط في العراق بل في جميع دول العالم وهي تحتوي على عدة أفرع وأقسام وجميع أقسامها مرغوب في العمل بها وفي الوقت الحالي لها دور كبير حيث كانت شبه منعدمة قبل عام ٢٠٠٣ لكن اليوم في ظل الأجواء الديمقراطية اصبح الوضع مختلف ، وقد تم التصويت على قانون حماية الصحفيين في عام ٢٠١٣ لكن لم يفعل لحد هذه اللحظة وهو من أهم القوانين التي يجب أن تفعل في البلد فالصحفي اليوم يتعرض إلى تهميش وإقصاء واهنانة سواء في الشوارع أو الدوائر الرسمية ، فنطالب البرلمان ليس فقط بالتصويت على القانون بل بتطبيق مواد حماية حقوق الصحفي ، وذكرَ ان السبب وراء عدم إقرار هذا القانون وتفعيله بصورة حقيقية هو لأغراض سياسية ورفضهم للصحافة والاعلام بالتكلم بشكلٍ حر فنرى دائما تلكؤ في إقرار وتفعيل هذا القانون، واوضح تأثير مواقع التواصل الاجتماعي كان ايجابياً فالصحافة الاستقصائية اليوم لا تنحصر في إطار معين بل أدت تلك المواقع إلى نهوض وتطور ونمو سريع وسهل للصحافة الاستقصائية، وإن مستقبل الصحافة الاستقصائية في العراق نحو الاسوء من خلال زيادة التهميش لهذه الفئة الصحفية بل ان الاعلام عموماً هو من سيء لأسوء إضافة لعدم إعطاء الحقوق وأكد مناشدتهِ للحكومة العراقية والجهات المختصة والمنظمات الدولية المختصة في الصحافة والاعلام إلى النهوض بالواقع الصحفي لأن الصحفي العراقي اليوم مهمش ومهان بالرغم ان نظيره في دول العالم الأخرى هو أكثر فئة محترمة.
ولنا رأي ..
إن الصحافة الاستقصائية لا تنوي ان تخرج من قالب التحديات فهي تعتاش على ما يحدث في قطاعات المجتمع بمجملهِ من أحداث ونكبات لها آثار وتداعيات عميقة فضلا عن حقائق وامور مُغيّبة عن الجمهور العام وبذلك فلا وجود للاستقصاء لولا وجود الطاقات الصحفية الشجاعة و المضحية في سبيل كشف المستور والخفي وبذلك فأن تثمين هذه الجهود والتضحيات أمر مُحتم على الجهات المختصة سيما نقابة الصحفيين العراقيين كونها هي الأولى التي تظم الأعضاء الصحفية وحمايتهم مسؤولية تقع على عاتقها فلابد من أن تكون وسيلة ضغط على البرلمان العراقي وتحشيد الآراء حول تفعيل قانون حماية الصحفي ومقاضاة من يتعرض له ويعترض سير عمله الذي يصب في خدمة المجتمع، وستبقى الصحافة الاستقصائية تعاني مالم يحصل التدخل السريع لإنقاذها مما هي عليه بل وقد يمتد التأثير إلى مستقبلها الذي سيغيب بدلاً من أن يشرق في آفاق تنير المجتمع..