منوعات

الذاكرة الكربلائية .. (المشهد الثامن ) ( في بيتنا خصافة تمر ).

حسين أحمد الإمارة

جلست متكأ على الحائط لأتناول بضعة تمرات من خصافة كُبِسَ فيها تمر المكتوم المحبب لي والمفضل على جميع انواع التمور ..
عادت بي الذاكرة لأيام خلت لأحداث الطفولة المبكرة ،والتي شكلت جزء من حياتي..

بعد أن تم تحضير متطلبات وجبة الغداء، أصطحبتني جدتي( رحمها الله ) كبقية الأيام إلى البستان.
ونحن نسير على طريق يخترق بيوت المحلة، وشارع (السكال ) الترابي ،نشاهد صرائف السعف العائدة للعوائل الفقيرة والتي شيدت على بستان متروكة تعود ملكيتها إلى السيد سعيد الشروفي، حتى وصلنا إلى ساحة باب العلوة (باب بغداد )،لتلوح أمامنا مدرسة جميلة البناء إنها (مدرسة الأحرار الابتدائية )،
يشرف عليها خزان الماء الوحيد في هذه المنطقة، فهو يغذي الدور لنصف مدينة كربلاء تقريباً ،بماء الاسالة الصافي.

على الجهة اليسرى تلوح للناظر قنطرة مقوسة معقودة بنيت من الطابوق ( أم حديبة ) هكذا يسميها أهالي المدينة لتقوسها الواضح ،وهي المعبر الوحيد لطريق بغداد القديم،والبساتين المحيطة للمدينة من الجهة الشمالية، قبل شق طريق بغداد الجديد.

بجانبها يقبع كوخ يعود لشاغله إسمه (أبو جابية ) يقرأ الطالع لمن يرغب من النسوة (فتاح فال ) .

اجتزنا القنطرة، لنسمع صهيل صادر من مجموعة من الأحصنة التي تعود للشرطة .يقع مركز باب الخان على ضفة نهر الحسينية ،أفراد من الشرطة يرتدون ملابسهم بسروال قصير ولفاف( باندج ) يلف به الساق من الركبة الى مرفق القدم، مع( بصطال) من الجلد الأسود، وهو الزي الرسمي للشرطة آنذاك، مع بندقية ساكنة على الكتف، يغطي باحة المركز شجرة النبق الكبيرة.تمد ضلالها على الشارع أيضاً.

يقابلها محطة بنزين باب الخان، بنائها جميل، مديرها واقف على باب المدخل يراقب عمل المنتسبين، محطة صغيرة لكنها تفي بالغرض لقلة وسائط النقل حينها.

نعبر نهر (الحلة ) الصغير الذي يمر بجانب المركز ويتجه إلى الجنوب من مدينة كربلاء ليسقي بساتين باب الخان، وعلى جانبه تشاهد مدرسة كبيرة بداعة في التصميم ،بسياجها الحديدي المُشَبْك الذي يظهر تفاصيل المدرسة المكانية لتجذبك في الارتماء لاحضانها. لثلاث سنوات دراسية تتلقى بها العلم من اساتذة أكفاء ،إنها متوسطة،تغير إسمها لثلاث اسماء،
(كربلاء..المركزية..الفراهيدي ).

ما أن وصلنا للبستان،ناديت من الباب بأعلى صوتي( محمدي ) خرج لنا ( مشتي محمدي ) وهو من القومية الفارسية. يعمل بزراعة الخضروات ويعتاش على عائدها إضافة لما يكسبه من أجر من جدي كونه يساعده في الفلاحة.
وقت قصير مضى، وإذا بصديق لي نادى بأعلى صوته من خلف الباب،
خلعت الدشداشة وركضت متجهاً للخارج..
صاحت جدتي..وين رايح طاير.
.. بيبي راح اسبح.
ولك من الصباحيات.
.. هسه اجي ما أتأخر عفية بيبي.
يله روح ودير بالك من الجاموس من يجي يسبح.
… أي زين.

كان مربو الجاموس الساكنين في باب طويريج يجلبون حيواناتهم للنهر لأخذ قسط من السباحة لتنشيطها .

ساعة من الزمن قضيناها تحت ضلال شجرة التوثة ألتي نشرت اغصانها بعيداً على النهر ،عدت وأنا محمر العينين، أتضور جوعاً ،هجمت على الزبيل، تناولت قطعة طماطة مع خيارة لسد الجوع مؤقتاً وانتظار وجبة الغداء.

نداء موجه لي من جدي ..رحمه الله.
حسوني تعال جدو..
وكان قد ربط الحمار بناعور الماء لسقي البستان.

تسلقت شجرة التين (الأسود )، قطفت مجموعة منه ،أدخلته في جيبي ونزلت، اتناول منه الواحدة تلو الأخرى (ما ألذه) وأنا أراقب حركة الماء الساقط من دلال الناعور.

بعد أن أكمل صلاة الظهر ،كانت جدتي قد أعدت مائدة الطعام البسيط اللذيذ والمكون من طبق الباذنجان المشوي على الحطب والمخلوط باللبن، إظافة إلى أكلة الكذابة (الجذابة )، تتكون من بيض يطبخ في الماء الحار مع البصل والتوابل، إضافة للخبز الحار والخضروات واللبن المنشف مع ( الحنونة خاصتي ) .
جلسنا بالإضافة لمشتي محمدي لتناول الطعام والتذاكر في شؤون البستان.

قبل الغروب تهيئنا للعودة للديار.
تولى محمدي جمع الخيرات التي وهبها الله. سلات الرطب بمختلف أنواعه وسلات التين والعنب والكوجة والرمان. نضدها على ساحة ايوان الدار، لنقلها صباحاً إلى علوة المخضر لأجل بيعها.

في زمن الستينات كان موكب عزاء موسى الكاظم عليه السلام. ينتظم في البستان ويخرج منها.

المجموعة المختصة بتهيأة مستلزمات النعش والضيافة تأتي قبل يوم للقيام بإكمال الإجراءات كافة. وتجلب معها أدوات الشاي.
الاباريق بمختلف احجامها وصناعتها
والمناقل والزبلان الكبيرة التي توضع فيها الكعك والبقصم والجرك. وكذلك أقداح الشاي وخزانات الماء (الحب الذي يوضع فيه الماء) لأجل الحصول على برودة مقبولة ، والشاي والسكر وأمور أخرى.

.في اليوم التالي تتقاطر جموع الناس، تتجمع بالقرب من باب البستان، يفترشون الأرض ويحتسون الشاي مع الكعك، في انتظار بدء أنطلاق الموكب.

بعد إتمام الصلاة يتهيء الجميع بالمشاركة بالعزاء ، حاملي النعش سائرين باتجاه صحن أبا الفضل العباس ومن بعده يتجه الموكب الى صحن الإمام الحسين عليه السلام. وهنا ينتهي الموكب ..وكل يذهب لداره.
طبعاً كنت اتصدر المشهد كوني سيد المكان.

رحم الله من غادر الدنيا وحفظ الباقين.
بقايا من الذاكرة تختزن الكثير من اعوام العمر وما حدث فيها.

مقالات ذات صلة

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى