حسين أحمد الإمارة
بعد الإنتهاء من تناول وجبة الإفطار، أرتديت الدشداشة..
..يُمه أني طالع.
…أي يُمه الله وياك.
متوجهاً إلى المحل، الكائن على شارع العباس. ع.سالكاً طريق سوق باب السلالمة.
وأنا أسير وإذا بصوت السماء يتردد على مسمعي. ،إنه( الحاج محمد حسن الجراخ ) رحمه الله. وهو يقرأ القرآن. اعتاد هذا الرجل كما أغلب أصحاب المهن والمحلات أن يبدأ عمله صباحاً بقراءة ما تَيَّسر من آيات من الذكر الحكيم، والتوكل على الرزاق الكريم..
عبرت فرع آلبو شهَّيب .شاهدت الحاج (حسن تتنجي ) رحمه الله، منشغل في إعداد وترتيب ما يحتويه المحل من بضاعة.(تتن السليمانية، وجكاير المزبن، والجمهوري وغازي وشخاط أبو النجمة) .
إلى اليسار يقف الحاج( إبراهيم منغص ) رحمه الله، مرتدياً السدارة، متهياً للذهاب إلى مبنى البلدية. ألقيت عليه التحية، وسرت إلى حيث موقع وقفة الإمام الحسين عليه السلام، مع عمر بن سعد.
(يقال أن هذا المكان شهد المحاورة بين إبن بنت رسول الله .ص.وبين قائد جيش يزيد في المعركة التي وقعت في عام ٦١ هجرية.في العاشر من محرم الحرام ).
بجانبه محل الحاج( عزيز أبو الطرشي) رحمه الله .وفي المقابل، نسوة يفترشن الأرض لطلب الرزق. يعرضن مما جادت به أرض الله وخيراته من الفاكهة والخضروات والبيض والدواجن ومنتجات الألبان بمختلف أنواعها.
إلى جهة اليسار فرع يؤدي إلى عكد( البرجه )،يليه علوة( الحاج عبد الجليل العلوجي المرشدي) رحمه الله، جالساً على كرسيه وبيده سبحة سوداء يذكر الله بها..
ثم محل كعك الرسول الشهير الذي لا يضاهيه أحد. يقابله( خليل أبو الحيايه ) يقدم لزبائنه أفطاراً لذيذاً من (المعلاك والتكة )..وبجانبه معمل مرطبات النضال العائد الى المرحوم كاظم الصخني (أبو العود)..
وصلت مقهى (حميد الصيدلي) رحمه الله ..ناداني،
تعال عمو أبوك بالكهوة..
دخلت وعلى اليمين مجموعة من أصدقاء الوالد..
(رضا طليفح..عبد الحسين زيارة( المعمار ) .سيد حسام طعمة ..عبد دنفش..اسماعيل المرشدي..مهدي التريري..عباس النداف..خضير الخياط..سعد النجار )..رحمهم الله جميعا. يتجاذبون الحديث فيما بينهم..
ناولني والدي مفاتيح المحل. عاودت السير باتجاه شارع صاحب الزمان. ع.
أمام مقهى الصيدلي يقع خان عصفور. تجمع أمامه مجموعة من الشباب، يبدو أنهم على موعد مع السفر..
وإلى الأمام محل جاسب الكصاب ..وحسين كواز( الاثري ) ، أمام حمام المالح ..يليه محل رضا أبو السبزي، وشيخ عيسى العطار..
أنهيت سوق باب السلالمة، دخلت شارع صاحب الزمان. وكان قد أطلق عليه شارع( أبو ديه ) وذلك نسبة إلى أحد الساكنين في الشارع، وكانت إحدى ذراعيه مبتورة.
الشارع غير معبد، يعلوه التراب مما حدى بأصحاب المحلات القيام برشه بالماء كل صباح..
بيوت عامرة تطل على الشارع..
بيت مصطفى خان، على اليمين بيت طابور اغاسي، يقابله بيت الصافي. تحته محل( عبد أبو المعلاك ) رحمه الله يتجمع حوله أهل الديرة من أصحاب المحلات وغيرهم لتناول وجبة الإفطار. أمامه بيت الشاعر (محمد زمان ) يقع على بداية الفرع المؤدي إلى جامع العطاربن ومنه منفذ إلى سوق التجار الكبير. يليه بيت الوهاب السادة (عزي وعلي ) وبيت نصر الله وبيت الحاج رجب، وإلى اليسار مدخل (عكد السادة ) ،وبيت الاستربادي والبهبهاني وآل تاجر وبيت القزويني سيد مرتضى وسيد كاظم. ثم بيت (آغا بدري ) سادن الروضة العباسية. يقابله بيت السادة آل تاجر..
حتى نصل تقاطع شارع الإمام علي عليه السلام. وكان يطلق عليه في العهد الملكي شارع( الأمير فيصل ).
. أجتزتُ التقاطع لأصل لشارع محيط صحن أبا الفضل العباس. ع. استدير يميناً تأخذني قدماي الى جامع الأحمدي، عند مدخل سوق العباس. وقبله عكد الإخباري، ثم الإتجاه الى باب القبلة، ماراً على المحلات الواقعة ضمن الحائر. فندق الأعيان. محل أحذية باتا. في الجهة المقابلة فندق المعالي الذي يطل على ساحة باب القبلة. ومحل طرشي الميناء (سيد حسين الطرشجي ) .
اوقفني أحد الزائرين من كبار السن.
…عمي هاي باب الحسين..
…لا عمي هاي باب العباس..
سحبته من يده لأرشده لباب الشهداء عن طريق شارع علي الاكبر. نظرت يميناً لأرى سيد حسين الطرشجي (رحمه الله ) يتابع تصرفاتي وما قمت به..أبتسم، القيت عليه التحية، ردها وأردفها ب (عفية عمو ) تعبيرا عن رضاه بمافعلت. فرحت كثيرا.
..وين أبوك..
..عمو بالكهوة هسه يجي ورايه.
إتجهت إلى الجهة المقابلة،وإذا بمفوض الشرطة المرحوم السيد خضر شبر، متأبطاً عصاه، واقفاً على منصة المرور أمام باب القبلة يتابع حركة الناس، عبرته لأقف أمام محل الحاج المرحوم ( أحمد السعداوي ) ،رفعت يدي لإلقاء التحية..وإذا بصوته ..تعال حسين أخذ كعك..ناولني بضع كعكات.
وأنا أسير في اتجاه المحل الذي يبعد عن باب القبلة حوالي 100متر. شاهدت سيد محمد صاحب محل أحذية الشاكري ،وهو يرش الماء، ألقيت عليه التحية، أبتسم وردها مع رشقة ماء خفيفة، ركضت كي لا يصيبني البلل، وصلت المحل، اخرجت المفاتيح وفتحت الاقفال. لم أتمكن من رفع الابواب. جاء أحد المارة وطلب مني التنحي، شرع برفع الابواب، شكرته وغادر مبتسماً ..
نظرت إلى الجهة المقابلة حيث محل خياطة الحائري رحمه الله والد( الشيخ أحمد ) ومحل صياغة السماك ومحل (خليل النقاش) رحمه الله. الفنان الفطري، من المبدعين في فن الطرق والنقش على الأواني والاباريق النحاسية والفضية، يجسد في أعماله تاريخ ما مضى من آثار المدينة والعراق على حد سواء. ومطرزات الشالجي وجواد كور وغيرهم..
استعنت بالله ودخلت المحل وشرعت بالتنظيف..
دخل والدي وجلس خلف الطاولة بعد أن خلع عباءته ووضعها جانباً
..بابا جيبلي جاي..رحمك الله أبي.
حادثة موكب عزاء الرميثة..
في أثناء زيارة أربعينية الإمام الحسين عليه السلام.
(وتسمى ايضا زيارة مرد الراس ).
ازدحم الشارع بالزائرين. أصوات تتعالى من جموع الحشود.
سيدة كبيرة بالسن، افترشت الأرض، تبيع الشاي، دخان يتصاعد وطقطقة أواني الشاي. وآخر واقف على ناصية مكونة من صناديق المشروبات الغازية. (أشرب بارد يزاير ) ،وثالث يعرض لعب الأطفال للزائرين.
صوت إمرأة في وسط العمر، تلف عباءتها حول خصرها، وارتدت على رأسها (شيلة وعصابة ) تصيح بأعلى صوتها (يُمه وليدي ضاع ) ،تحث الخطا باتجاه باب القبلة..خلفها يجري رجل يرجوا الناس لمساعدته بالعثور على ولده..
وأنا واقف على كرسي وضعته أمام المحل، أتطلع إلى حركة الناس، وإذا بموجة من الزائرين تركض قادمة من باب القبلة .قناني المشروبات الغازية ترمى بين الجموع، وأطفال تسقط ونسوة يتعثرن بعبائاتهن وطلقات تسمع من مكان الحادث.
خرج والدي منادياً النساء والأطفال، أدخلوا في المحل جميعاً ولا تخافوا.
أمتلأ المكان عن بكرة أبيه. أستمر هذا الحال لفترة قصيرة، وخلى الشارع من المارة.
أتضح فيما بعد أن موكب عزاء الرميثة تعمد بإطلاق ردات معادية للنظام، مما أثار حفيظة الشرطة المسؤولة عن حفظ الأمن بالرد عليهم وتفرقة العزاء.
أعتقد هذه الحادثة وقعت أثناء حكم عبد السلام عارف، عام 1964او 1965.
عجلة الحياة تسير بحلوها ومرها والكل تسعى لطلب الرزق.
هكذا هي الحياة تدور حتى نلقى الله ..
رحم الله من غادر الدنيا إلى رب رحيم، وحفظ الباقين بحفظه وعنايته..