معن البياري
ان نعرِف الكاتب والروائي العراقي علاء مشذوب، أكثرَ وأكثر، بأن نقرأ رواياتِه وقصصَه ودراساتِه، في كتبه الإحدى والعشرين، هو أقلّ ما يمكن أن نردّ به على جريمة الاغتيال الحقيرة التي قضى فيها هذا الكاتب، المجدّ الموهوب، السبت الماضي، في مدينتِه كربلاء. عدا عن أننا، في قراءةٍ محبّةٍ لأدبِه، إنما نعتذر لروحِه، بسبب ما مورس تجاه رواياته التسع (مثلا) من قلة التفاتٍ إليها. وهذه روايتُه، “حمّام اليهودي..” (دار سطور، بغداد، 2017)، لم تنل إضاءاتٍ مستحقّةً على قيمتها وأهميتها الخاصة في المدوّنة الروائية العربية. لم تأخذ الذيوع الذي ينبّه إلى الفعل الجديد الذي صنَعه علاء مشذوب عندما كتبها، الفعل الذي ينهض على منطوق العراق الواحد، عندما تذهب هذه الرواية إلى مقطعٍ في تاريخ هذا البلد، وتنبني على حكايةٍ شائقةٍ ومثيرةٍ بطلُها عراقي يهودي، يرتحل من بغداد إلى كربلاء ليقيم فيها، ثم يشعر بالانتماء إليها، على عكس شعورِه تجاه بغداد، على ما يقول، وهو الراوي السارد الذي يحكي طوال الرواية (240 صفحة) عن تجارته في القماش واستثمار حمّام في هذه المدينة، ذات المكانة المقدّسة، وعن أسرته وعلاقاتِه وحضوره في المجتمع الكربلائي، وهو اليهودي، فيما غالبية الأهالي والسكان مسلمون شيعة، وذلك كله منذ العام 1918 إلى ما قبل نهاية الثلاثينيات. وفي الأثناء، يمرّ سطرٌ في هذا العمل اللافت يفيد بأن هذا الراوي هو من يكتب النص أيضا، وكأن علاء مشذوب يتوسّل إيحاءً أقوى بمصداقيةٍ مضاعَفةٍ لما أراد قولَه، على لسان بطله الروائي، عن العراق في تلك السنوات التي شهد في بعضها اضطرابا كبيرا، ولسان حال الكاتب إنما يقولُ عن عراقٍ راهن، يفتقد تلك الروح السمحة التي تحلّت بمثلِها كربلاء التي انتمى إليها يعقوب شكر الله.
يفتتح الكاتب روايتَه بجملةٍ مستلّةٍ من بطل روايةٍ لمواطنه علي بدر، تفيد بأن من لا يستطيع المغامرة في الحياة لا يستطيع المغامرة في الأدب. ولعلها إشارةٌ هنا إلى “مغامرةٍ” يُقدم عليها علاء مشذوب نفسُه، عندما يغادر، في روايته هذه، إلى منطقةٍ حسّاسة، إلى مسألة الأقليات في العراق، اليهود منهم، عندما يأتي بواحدٍ منهم إلى كربلاء ليجد فيها سعة الرزق والدعةَ وطيب المقام وهناءة البال. أما مغامرة مشذوب في حياته، فربما كانت في خيارِه أن يكون خصما عنيدا للطائفيين والمذهبيين، وأن يكون مع العراق المُعافى من حكم الفاسدين وولاة الفقهاء، فكان فدائيا في حاله هذا. ولأن كربلاء الراهنة غير التي عاش فيها يعقوب شكر الله دانيال، كانت الرصاصات الثلاث عشرة إيّاها، من متعصّبين كارهين الاختلاف والتعدّد والتنوع، ممن لا تقيم فيهم روح كربلاء التي يعرّفنا عليها علاء مشذوب بحِرفيةٍ سرديةٍ رفيعة، بدا فيها وصّافا خبيرا، بارعا في تصوير مشهدياته، وتعيين شخصياته، وفي الحكي عن الأزقة والحواري والشوارع، وعن مواكب العزاء في الإمام الحسين، وعن ألبسةٍ وأرديةٍ ودكاكين وحمّامات وبيوت ومنازل، عن كل شيء (لا مبالغة) في كربلاء قبل نحو مائة عام. وإلى هذا وغيرِه، نجح بحذاقةٍ في التعريف بإنسان المدينة، وتنويعات شرائحه في مجتمعٍ مفتوحٍ على الوافدين فيها (من إيران خصوصا). وإنْ ألحّت الرواية على عدم نجاح يعقوب شكر الله في مشروع الحمّام الذي أقامه، وعزّ عليه أن يُغلقه، وإنْ باعَه ثم عاد إليه، وذلك كله لأن المسلمين يتحسّسون من الاغتسال والاستحمام وتوسّل النظافة والطهارة في حمّامٍ صاحبُه يهودي. يقول يعقوب عن هذا الأمر في مواطن غير قليلة في الرواية، لكنه لا يجده سببا لامتعاضٍ من كربلاء وناسها، ولا لمغادرتها، هو الذي جاء إليها مدفوعا برفضِه الهجرة إلى إسرائيل. وهذه مسألةٌ مركزيةٌ في الرواية المبنيّة سرديا في مسارٍ كلاسيكي خطّي، محفوظي، متينٍ شائقٍ على كل حال (مع أخطاء نحوية وتحريرية!).
في الوسع، من دون تحرّز، الزعم أيضا إن “حمّام اليهودي” روايةٌ متقنةٌ عن نجاح الصهيونية في اشتغالها على يهود العراق ليهاجر كثيرون منهم إلى “أرض الميعاد” في فلسطين. روايةٌ رهيفةٌ عن هذا كله، أطلّت بكفاءةٍ ظاهرةٍ على مناخٍ اجتماعيٍّ عام في عراقٍ غير بعيد، وعلى أحوال مواطنيه اليهود في تلك الغضون. وأي إيجازٍ لصنيع علاء مشذوب في هذا الشأن يخلّ بعلوّ مستوى روايته هذه. .. قراءتُها أحسن.