مقالات

العقيلة زينب (عليها السلام): القيادة التي أنطقت الجراح، ورسّخت الخلود

د. محمد عصمت البياتي

في ملحمة كربلاء الخالدة، لا تقف البطولة عند صليل السيوف ولا عند وقفة الأبطال في ساح الوغى، بل تمتدُّ لتُسطّرها امرأةٌ إذا ذُكرت انحنت لها القمم، وإذا خطبت خرس الطغاة، وإذا مشت، خُيّل للناس أن الزهراء (عليها السلام) قد عادت تمشي في لظى المصاب، لكنها لا تنكسر… إنها زينب بنت علي، عقيلة بني هاشم، وسيدة الحزن الهادر، وعمود الخيمة بعد سقوط الفرسان.

 

لقد شاء الله أن لا تُختتم ثورة الحسين (عليه السلام) بحدّ السيف، بل تُستكملُ بنصل الكلمة، وبدمعةٍ واعية، وبصوتٍ يدوّي في الآفاق فيخرّ له سلطان الجور، وهنا بزغت زينب، لا كامرأة تنوح، بل كقائدة ربّانية تحمل على عاتقها ما لا تحتمله الجبال، فتشقّ درب الخلود للأجيال، وتخطُّ للعزّ سفرًا لا يُطوى.

 

أولًا: زينب… حين تُصبح الجراح منبرًا

كربلاء ليست فاجعةً تُبكى، بل هي ولادةٌ كونية لرسالة محمدية طاهرة، ورسالة لا تكتمل إلا بمنبرٍ ينبض بالدم، ويرتفع من بين أنين اليتامى وصهيل الخيل. من رحم الخيمة المثقوبة، ومن بين أوجاع الثكالى، خرجت زينب لتكون صوت الحسين، ولسان الحقيقة، ومشعلًا لا يخبو.

 

خطبت في الكوفة، والدمع يبلل وجنتيها، والدم في قلبها يصرخ، والحسين لا يزال حيًا في وجدانها، فقالت:

 

“أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنّة… إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا…”

 

لم تكن تُعاتب، بل كانت تُدين. لم تكن تُبكّيهم، بل كانت تُحاكمهم. حولت الجراح إلى منبر، والمأساة إلى قضية، والدمعة إلى شعلة لا تنطفئ.

 

ثانيًا: بين الكوفة والشام… منابر الثأر الصامت

في مجلس يزيد، لم تدخل زينب كسيرة، بل دخلت كأنها ملكة الموقف، تمشي بين الركام بعنفوان الرسالة، ووقار السماء، ووقفت في وجه الطاغية، تزعزع عرشه بصوتها، وتقول:

 

“فكد كيدك، واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا…”

 

أي بيانٍ هذا الذي يُلقى في عرش الظالمين؟

أي كبرياء هذا الذي يخرج من قلبٍ مكلوم، لكنه لا ينكسر؟

لقد أسقطت زينب يزيد بصوتها، قبل أن تُسقطه الثورات، وجعلت من مجلس الطغيان ميدانًا للمواجهة، ومن رقبة الأسر تيجان عزّ لا تُنال.

 

ثالثًا: زينب… مدرسة القيادة الرسالية للمرأة

ما فعلته زينب لم يكن مجرد صبر امرأة على نازلة، بل تأسيس لمنظومة فكرية وقيادية للمرأة الرسالية، التي لا تكتفي بالدور الهامشي، بل تصنع الموقف، وتوجّه الأمة، وتحمل راية البلاغ والتبليغ.

 

هي الحارسة لبقية الإمامة، إذ احتضنت الإمام زين العابدين (عليه السلام) وصانته من بطش الطغاة.

 

وهي العقل المدبّر الذي قرأ اللحظة التاريخية بوعيٍ ثاقب، وخاطب القوم ببيانٍ هادر، وواجه الطغيان بحجج السماء.

 

وهي المؤرخة الأولى لكربلاء، والذاكرة الحيّة للنهضة الحسينية، التي لولاها لابتلعتها رمال الصحراء.

 

رابعًا: من رحم المصيبة… يولد المجد

 

زينب لم تكن امرأة عادية، بل كانت التجسيد الحيّ لفلسفة القيادة في زمن الانكسار، والنور في قلب الظلام. حملت رأس الحسين في قلبها، لا في كفّها، وسارت به لا لتبكي، بل لتُعلّم الدنيا:

 

▪️ أن الحسين لا يُقتل، بل يُبعث حيًا في ضمائر الأحرار.

 

▪️ وأن المرأة إذا امتلكت الوعي، صارت أمّةً كاملة لا تنكسر.

 

▪️ وأن الرسالة لا يُكتب لها الخلود إلا إذا حملتها صدور الصابرين، وضمائر الواعين.

 

الخاتمة: زينب… الرمز والرسالة

حين أراد الطغاة أن يطفئوا نور الله، أرسل الله زينب لتكون النور الهادي.

وحين أرادوا دفن كربلاء، أنطقتهم زينب بما لم يخطر لهم على بال.

وحين ظنّوا أن الصوت الأنثوي لا يخلّد، قالت زينب:

 

“بل إن صوتي سيبقى يدوّي في التاريخ، وأنتم غباره، وظلمكم رمادٌ تُذروه العواصف.”

 

*فسلامٌ على زينب، سيدة البلاغ، وأيقونة الصمود، ومعجزة الطف الثانية، وعقيلة الرسالة، ومعلّمة الأجيال.

وسلامٌ عليها يوم وُلدت، ويوم جاهدت، ويوم تُبعث عنوانًا للمرأة التي غيّرت مسار التاريخ.

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى