الصراع بين «القديم» و«الحديث» لا يتوقف، فهو سُنّة كونية مستمرة ومتجددة لا تُستثنى منها منطقة، ولا شعب؛ فبين عقلية تخشى التغيير وتهابه، وتعتبره مشروعاً «مريباً» و«مؤامرة خبيثة»، وعقلية تعتبر الموقف السابق ما هو إلا «إجهاض للمستقبل». وهذا الصراع موجود بأشكاله المختلفة، سواء في الغرب أو الشرق.
مع تغير كفة الرخاء الاقتصادي، وتغير دورة التاريخ، باتت دول جديدة لها الحق في تصدر المشهد القيادي، وأصبحت المعايير جديدة ومتغيرة؛ فالاتباع لا يكون بحسب معايير راسخة، ولكن بواقع فوائض الأموال والقوة التي تأتي مع ذلك، وتصبح معايير التقدم هي مقدار القدرة على الاستهلاك، ويأتي بالتالي إحساس المنهزم أمام أحلامه وتطلعاته، ويصبح عليه أن يقلد المنتصر مادياً. ويصبح التحول «الفجائي» بسبب ظروف اقتصادية استثنائية مصدراً للتطرف في جميع التصرفات إلى درجة الابتذال، وحتى في حال ممارسة الأفكار نفسها، فتنالها الروح المدمرة ذاتها، ويطال هذا النوع من التطرف العشوائي السلوك والاختيارات ليصبّ في الفنون والآراء الدينية والاجتماعية والعمران وقطاعات أخرى، ويتولد من ثم نوع من «المسخ» المتوحش، وقد لمح إلى ذلك الفيلم السينمائي الناجح جداً، المأخوذ من رواية بالاسم نفسه، «أثرياء آسيويون مجانين»، وفيه يظهر جنون المادية وطغيانها على المجتمع في سنغافورة (ويطال تايوان أيضاً) بالمقارنة مع أهل الصين القدامى.
هذا المدخل نفسه يستخدمه الأوروبيون اليوم لنقد «تصرفات» الأميركيين والاعتراض على «أفكارهم»، مع العلم بأن وثيقة الاستقلال الأميركية العبقرية استفادت من إرث اليونان و«الماغنا كارتا» في بريطانيا، والثورة الفرنسية، وطورت ما جاء فيها جميعاً، وأضافت حقوقاً وواجبات مبهرة، مثل «الحق في الحياة والحرية والاقتصاد والسعادة»، وهي التي دبج فيها إعلان الاستقلال الأميركي منذ أكثر من مائتي عام، وبالتالي الحكم على عصر الرئيس ترمب وكأنه «مسخ» هو طنطنة فلسفية فارغة تمحو إرث الآباء المؤسسين لهذه القوة العظمى، وبالتالي، وكإسقاط على عالمنا العربي، يمكن اختصار القول بأن ما يحصل من صراعات في العالم العربي بآخر مائة عام، هو صراع قيمي مبدئي، وليس صراعاً سياسياً أو اجتماعياً أو طبقياً.
مؤخراً، وفي السنوات العشر الأخيرة، بدا صراع واضح بين الماضي والمستقبل، مما كوَّن «حروب استنزاف» لم تتوقف امتداداً لآخر ألف وأربعمائة عام. سبب هذه الكلمات هو صدمتي بعد قراءة تقرير لأحد البيوت المالية العالمية المرموقة تصنّف العالم العربي بأنه منطقة مخاطرة أعلى من أفريقيا السوداء، وبررت ذلك بأن هناك تطوراً بارزاً في دول مختلفة بالقارة السوداء في أسلوب الحوكمة والمحاسبة والقانون في أكثر من دولة.
بعيداً عن نظرية المؤامرة، وبعيداً عن جلد الذات، وبعيداً عن أي معايير غير موضوعية، فإن التاريخ هو فلسفة الماضي، أي الحكمة المستقاة من أحداث حصلت أو تحصل، وإذا لم يكن كل ما جرى سبباً في تحسين حال الحاضر، ومنصة للانطلاق نحو المستقبل فلا قيمة له.
0 957 2 دقائق