طلال العامري
هدموك يا مرقد سيدنا يونس (ع) والموصل من أقصاها إلى أقصاها تبكي دماً وحسرة # سعدون ناصر يواسيني وشعرت بدموعه تنساب عبر الهاتف الجديد الذي وصلني من قطر # يوم اقترب “صدام حسين” على بعد أمتار مني # حارس محمد من قطر.. اتصالات لا تنقطع بعد إيجاد الحل السحري # سمير الشكرجي يجازف بتحويل مبلغ أعيد أو لم يعد له لاحقاً! # مراقد الأنبياء والأولياء تستباح وتفجّر ورفع الصلبان من فوق أسطح الكنائس! # كل ما تشتيه الأنفس من مأكل وملبس وأجهزة مختلفة كنّا نراه في أسواق الموصل! # فرض الخمار وتقصير الثياب وإطالة اللحى باتت فرضاً ومن يخالف يتم تعزيره (جلده)! # اتحاد الساحة والميدان وموقف مشرّف يكتب له بأحرف من ذهب! # هكذا صرفت مبالغ مالية لممثلية نينوى واتحاداتها الفرعية والدكتور خالد محمود عزيز معنا أول بأول # حتى وإن سبق وأديت صلاة الفرض في دارك الذي خرجت منه.. يجبروك على أدائها في المسجد مرّة أخرى بداعي أنّك لم تصلّ! #حكايتي مع القبطي المصري حسني # أنا والصالحي وخطة ترك الأهل والعراق التي دفعتني أسرتي لخوضها خوفاً عليّ من المجهول! حلقت الطائرتان السمتيتان (العسكريتان المتروكتان) في مقر عمليات نينوى في سماء الموصل ثم اختفيتا لاحقاً.. مما يعني وهذه رسالة من “الدواعش”.. أنكم يا أهل نينوى أصبحتم تحت رحمتنا أرضاً وسماءً.. نزعت طرفي الصناعي وقلت للأهل.. ارفعوه وابعدوه عني أصبحت أمقته.. لم أعد أطيقه.. سأستخدم العكازات من اليوم فصاعداً، كي لا يتم كشفي والتعرّف على شخصيتي كما أنه غالباَ ما يخونني ويؤذيني..! بالفعل رحت أتنقل بعكازي سواء داخل البيت أو خارجه.. أمام باب المنزل أو ساعة وقوفي مع بعض الجيران من الذين كنت أثق بهم فقط.. لم يعد للثقة حيّز كبير.. هي الأخرى راحت تتلاشى تدريجياً وكأنها قطرات بنزين لفحتها أشعة الشمس..! جربت يوماً الخروج مع زوجتي أم النورس إلى منطقة الغابات السياحية.. تولّدت الفكرة عندي خصوصاً بعد منع العوائل من الجلوس في عدد غير قليل من مطاعم الموصل والسبب على حدّ وصفهم “درءاً للفتنة الناتجة عن الاختلاط بين العائلات الغريبة عن بعضها”..! أخذت طعاماً سفرياً (جاهز) من مطعم مأكولات طماطة للأكلات السريعة الكائن في حي الجامعة واتجهت بسيارتي إلى غابات الموصل.. مددنا السفرة على (الدشبول).. المقبلات هنا وعلبة الببسي كولا هناك و(لفّات الطعام) بأيدينا.. بقينا في السيارة نتناول ما حملناه رغم ضيق المكان وتناثر قسم مما وضعناه أمامنا حتى في حجرنا..! على أنغام أغنية لعبدالحليم حافظ (فاتت جنبنا) كنّا نستذكر أيامنا الحلوة التي مرّت.. ثم نستدرك الواقع ونقول.. هل ستعود أم يتوقف الزمن ويبتلعنا الحيتان التي علموها السباحة في المياه العذبة.. كان دجلة قريب منّا.. كنّا نخشاه، ليس لأنه يعلن تمرّده بين آونة وأخرى أو يرتفع منسوبه، بل لأنه تغيّر طعم ماءه ولونه مع بناء السدّ (الموصل) مطلع ثمانينيات القرن العشرين.. فأصبحت مواعيد فيضانه غير معلومة وبدلاً عن تحكّم الخالق بها، بات المخلوق هو الآمر الناهي..! دقائق على قضم اللقمة الأولى مما بأيدينا وإذا بشخصين يقتربان منّا وبعبارة تحمل بين طياتها الكثير من المعاني والظنون والشكوك.. خاطبنا أحدهما وقال: ماذا تفعلان هنا..؟ حاولت الرد عليه بقوة، لكن زوجتي التي كانت ترتجف، نهرتني وقبضت على يدي ثم ضغطت عليها لتعلمني أن أدع الأمور تسير بلا انفعال..! قلت للمتكلم.. الدنيا نهار والمكان مفتوح والسيارات تسير من فوقنا وأمامنا.. ماذا نفعل.. ألا ترانا نأكل طعامنا.. تحدث الثاني وقال.. اتركهما.. الأوامر التي عندنا واضحة وهما كما تراهما ملتزمان.. قال الأول من التي معك؟ أجبته: زوجتي.. هل هناك ما يمنع وجود الزوجة بصحبة زوجها..؟ (دمدم) بكلمات وقفل عائداً وكرر علينا، لا تتأخروا بالوقوف هنا (زين) نطقها بطريقة من يسكنون خارج مركز المدينة (الريف)..! كرهت نفسي وأنا أتحمّل كلام هكذا نفايات رمت بها الأقدار بطريقنا لتعلّمنا وتجبرنا على الخنوع لارادتها مع أنها مغطّاة بالجهل المرسوم بلا ريشة أو ألوان..! فقدت جلستنا نكهتها والغاية التي يمكن أن تنتج عنها.. بانفعالٍ واضحٍ أدرت محرك السيارة وانطلقت بها وزوجتي تطالبني بالهدوء وضبط أعصابي واعادتها إلى البيت بسلام خوفاً من المجهول..! اقتربنا من “شارع العشاق” الذي يربط بين الغابات والشارع المؤدي إلى أحياء الشرطة والجامعة وصعوداً نحو الجسرين الثالث والخامس.. كانت تغطيه الأشجار وكأنه قطعة ربانية أهدتها الطبيعة لأهل الموصل.. لنا ذكريات هناك لم تخطر ببالنا لحظتها.. مع أننا غالباً ما كنّا نتحدث عن مواقف وأحداث مررنا بها هناك، حال استرجاعها نشعر بنشاطٍ غير مألوف وكأننا في أول أيام تعارفنا أو زواجنا.. هناك مثل عراقي يقول “إذا ضامك الضيم تذكّر أيام عرسك”.. رؤيتي للـ(داعشيين) الغريبين جعلني أنسى كل شيء وكذلك المسكينة التي قربي..! كان كتف “شارع العشّاق” من جهة الغابات وتحديداً الأرض العائدة لكلية الزراعة تعج بمختلف أنواع الأسلحة والعجلات العسكرية وقسم من المدنية وكلها بحالةٍ ممتازة.. لا يحرسها سوى بضعة “أنفار” من (جماعة التنظيم) لا يتعدون أصابع اليد الواحدة.. بحيث يمكن لآي مجموعة تجيد القتال السيطرة على الموقع واستغلال ما فيه من أسلحة واعتدة كافية لتحرير الموصل بظرف ساعات..! أكملت طريقي نحو بداية الغابات من جهة منطقة الرشيدية.. وهناك رأينا على الجهة اليسرى (بيت علي حسن المجيد) الواقع على نهر دجلة (كان سابقاً، بداية أحداث ٢٠٠٣ مقراً لمشعان الجبوري أي يوم أحتل العراق من قبل الأمريكان) والذي تم تحويله لاحقاً لثكنة عسكرية لهم، أي للدواعش الذين أخذوا “يتمددون” في الأرض الموصلّية..! استدرت من بداية الغابات وعدت للشارع الموازي الذي كنت أسير فيه.. كان هناك نوع من الزحام لم يكن مألوفاً تلك الساعة.. لأن الذروة لم يحن وقتها بعد..! كانت الحركة بطيئة.. لحظات ومن دون سابق إنذار واذا بيد تقتحم خلوتنا، تمتد إلينا وتدخل من شباك السيارة المفتوح من الجهة التي تجلس فيها زوجتي أم النورس، ليرمي صاحبها وبطريقة مخيفةٍ بعض النشرات الورقية الملونة حاثاً إيانا على قراءة ما فيها والالتزام به، ثم يردد حديثاً نبوياً بقي يكرره كما التسجيل الصوتي الذي يعيد نفسه بنفسه..! حوت تلك النشرات كلمات تثقيفية حول الالتزام بلبس الحجاب والبرقع واطالة اللحى وغيرها من الأمور التي عززوها بالأحاديث النبوية والآيات القرآنية وكيف أن من لا يلتزم بها سيعرّض نفسه للعقوبات وأولها التعزيز.. يعني (الجلد) حسب الشريعة..! كانت تلك هي البداية التي حملت بعدها الأسوأ والابشع.. علمنا أن هناك تعليمات جديدة أصدروها، توصي بمعاقبة الزوج أو رب الأسرة إن وجدوا أي فتاة أو سيدة من عائلته لا تلتزم بالتعليمات التي أصبحت دستورهم..! ما أن قرأت زوجتي ما حوته النشرة حتى توسّلت بي أن أشتري لها البرقع مع أنها كانت محجّبة من الأساس وأن لا أنسى شراءه لابنتنا الوحيدة خوفاً عليّ أنا وليس غير ذلك..! الغريب في الأمر أن كل من تدعي عدم قدرتها على شراء الزي (الشرعي) كانوا يقدمونه لها مجاناً أو يمنحونها مبلغ من المال لغرض شرائه.. !! وبحسب قولهم أن المبلغ يدفع من بيت مال المسلمين..! قررت العودة وترك الغابات وأنا ألعن الساعة التي غدرونا فيها وقصدت من هربوا وتركونا بين مخالب الذئاب أو من تفننوا باستغلال الدين واللعب على الوتر الطائفي ليشعر أهل الموصل بأغلبيتهم السنية بكونهم منبوذين من الجميع.. وإن لا حامي لهم سوى أولئك أدعياء الدين حماة (السنّة النبوية)..!
عرفنا مفردات بدأ تداولها مثل (ناصبي ورافضي وأهل الذمّة ونصراني ومرتد وملحد وكافر وخارج عن الملّة)..! كلها كانت تزيد الاحتقان والحنق.. لم يسلم فكر إلا وحاولوا تلويثه.. سخروا الدين للسيطرة على العقول وبالمقابل كان الإعلام الحكومي يزيد الكراهية التي زرعها بقصدٍ أو من دونه، من خلال ما يتم تداوله عبر القنوات العراقية وغيرها من تلك الموالية للأحزاب والسلطة وكلاً حسب مصلحته وما يريد أن (يبذر ويزرع) ليحصد لاحقاً.. أشعروا أهل الموصل “أغلبيتهم” بكونهم “خونة” وهم من يمدّون المحتلين الجدد بالقوّة التي يرتكزون عليها..! وهنا كان الخطأ الأكبر الذي لا يغتفر.. نعم كانت هناك حالات “حنق” على التصرفات التي زادت عن حدّها من قبل رجال الأمن بكل تصنيفاتهم، لكن ليس من طباع الموصلّي سلخ نفسه عن بلده وتحت أي ظرف.. لكن ماذا يفعل وهو الذي لا يملك شيئاً للدفاع به عن نفسه..! الوجه القبيح سرعان ما ظهر عرف عن مدينة الموصل بأنها مدينة الأنبياء والأولياء والرجال الصالحين.. بل إنها الأكثر التزاماً بالدين وهذا يشمل كل الديانات والطوائف التي على أرضها.. كان أشهر المراقد والجوامع فيها هو “مرقد النبي يونس عليه السلام” وكان عبارة عن جامع يقع فوق ربوة مرتفعةٍ نسبياً عن سطح الأرض مقابل (تل التوبة) الشهير بكتب التاريخ قبل آلاف السنين.. وهذا التل الذي قيل بأنه من استقبل سيدنا يونس عليه السلام حين خرج من بطن الحوت ورأى اليقطين الذي عالج به جسده.. وهناك تاب أهل نينوى بعد رؤيتهم معجزة نبي الله يونس.. ليبنى لاحقاً المرقد الذي أختلف بشأنه عن كونه حين ظهر للنور لم يكن سوى كنيسة حملت اسم “يونان”.. أو دير يعود لأحد رجال الديانة المسيحية.. أو معبد يعود للعصر الآشوري والأخيرة أكثر قرباً للواقع بعد الاكتشافات الآثارية التي أظهرت أسفل المرقد (ثوراً مجنحاً) والكثير من الكنوز التي لا تقدّر بثمن.. على غير العادة ولا مواقيت الصلاة.. تعالت أصوات التكبير.. كان الوقت بين العصر والمغرب.. بدأ الحديث عبر مكبرات الصوت الخاصة بالجوامع يصلنا ويطالب أهالي منطقتنا والمناطق المجاورة بفتح الأبواب والشبابيك، لأن (رجال الدولة الإسلامية سيقومون بعملية تفجير كبيرة).. وعلينا أخذ الحيطة والحذر..! ركض من ركض باتجاه الأبواب والشبابيك ولم نكن نعلم أن الضحية هو جامع النبي يونس عليه السلام الذي كان ملاذاً لكل العراقيين والعرب ودول الجوار وغيرها وليس أهالي نينوى فقط.. بل كان الحجاج الأتراك يشعرون بأن حجتهم لا تكتمل الا بزيارة مرقد نبي الله يونس عليه السلام ونتذكر يوم مجيء حجاج تركيا وكيف كنّا نتبادل السلع معهم ونبيعهم أشياء ونشتري منهم غيرها، لأن الدينار العراقي كان قوياً جداً في السبعينات والثمانينات مقابل الليرة التركية التي كنا نخاف منها ولا نقتنيها لضعفها ولا نحتفظ سوى ببعض القطع المعدنية كتذكار لا أكثر..! كان مرقد نبي الله يونس يقع في الطابق الثاني من الجامع وهو عبارة عن غرفة صغيرة جداً يتوسطها ضريح تم تغليفه بإطارٍ زجاجي وآخر حديدي له أقفال مع وجود فتحة لرمي النقود داخل الضريح وكان المال الذي يتكدّس يتم جمعه من قبل وزارة الأوقاف والشؤون الدينية السابقة ثم يتم تحويله إلى الوقف السني عقب أحداث (2003) رغم وجود النزاعات عليه وعلى الأراضي المجاورة والمقابلة له مع الوقف الشيعي لحصد أكبر قدر من المكاسب والأرباح..! الرئيس كان هنا لا أدري لماذا خطر في بالي تلك الحادثة التي جرت في تسعينيات القرن الماضي (العشرين) ويومها دخلت الشرطة المحلية وأجهزة الأمن الموصلية حالةً من الانذار القصوى، حين تعرض المرقد للسرقة بعد أن سطت مجموعة من الأشخاص على المال الموجود داخل الضريح وتحديداً قبل موعد فتحه الشهري من قبل لجنة الوزارة بيومين..! إن هي إلا أيام وإذا بالجناة يساقون إلى القضاء وهم متلبسين بالجرم المشهود وكان لرجال وشرطة ومكافحة الإجرام وأمن مركز النبي يونس (ع) اليد الطولى بكشف ملابسات الجريمة وإلقاء القبض على الفاعلين الذين نالوا الجزاء العادل نتيجة فعلتهم النكراء..! مرقد النبي يونس له بركات سواء صدقها البعض أم لم يصدّقها.. كنت يومها شريكاً بمحلٍ يقع بالجهة المقابلة للجامع وتحديداً في مدخل شارع المركز (النبي يونس).. كنت أبيع فيه القرطاسية والكتب والصحف والمجلات.. كانت تربطني علاقات متينة مع رجال المركز بكل عناوينهم الوظيفية وصداقات لم ينقطع الكثير منها إلى اليوم.. كان أهالي المنطقة من عشّاق الجامع والضريح ويتفاخرون أنه له كرامات ومن بينها (الأشهر) أن منطقتهم لم تتعرض لأي قصفٍ لا إيراني بالحرب مع إيران ولا أمريكي في حرب الخليج وما تلاها.. لأن منطقتهم تلك محروسة..! اذكر في حرب الخليج الأولى كنت مع عمي بالرضاعة هاشم العباسي أمام باب داره.. ما أن تركني حتى تعالى صوت صفارة الانذار القريبة من المنطقة.. لحظات وإذا بطائرة أمريكية تطير بمستوى منخفض جداً جداً لا أكذب إن قلت بأني رأيت طيارها وأنه كان ينظر إلينا وهل رآنا أم لا.. اخترقت تلك الطائرة حاجز الصوت وتسببت بتحطيم النوافذ ولكنها لم تطلق أي رصاصة وكأن من فيها فقد البصر أو أنه كما راح يشاع وجد نفسه فوق الماء وهو ما بقي يتداوله أهل المنطقة والمدينة..! تلك الأحاديث المتداولة علناً، ربما شجعت الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، كي يتواجد في حرب العام (1991) ولأيام عديدة في هذا الجامع.. وهذا الأمر لا أذكره، كي أزيد الاثارة بما ترون.. بل هو ما كان ورأيته وعشته بنفسي..! أصبحت في أحد أيام مطلع سنة (1991) وأنا أهم بفتح المحل واذا بي أرى شيئاً غريباً يحدث فوق مئذنة الجامع الشامخة والتي يقع أسفلها قبّة مبنية بطرازٍ فريدٍ يحكي قدمها.. كان هناك شخصان يرتديان الزي العسكري (زيتوني) ويحملان سلاحاً تبينته لاحقاً وهو من نوع (بازوكا) التي لا تشابه القاذفة (آر بي جي سفن) يسيران بحركة لا تتوقف حول أعلى المئذنة.. هذا الشيء نادراً ما كان يحدث، بل من ذا الذي يستطيع تحمّل التواجد هناك أعلى المئذنة دقائق وليس ساعات ومع الحركة..! اقتربت الساعة من منتصف النهار وإذا بصحف الأمس وما قبل الأمس تصلني، لأن حركة المواصلات كانت صعبة بين الموصل وبغداد.. كنت يومها أكتب بالصحف المركزية وأعمل بصفة مراسل (مندوب) بجريدة البعث الرياضي أشهر صحيفة رياضية في العراق، إضافة لعملي في جريدة الحدباء الموصلية.. وكذلك أتواجد بالهيئة الإدارية لنادي الموصل كممثل بالمجلس الرياضي العراقي عن المحافظة..! كنت أعيش قصّة حب عاصفٍ وكل همّي الزواج بمن أحببت بعد أن نسفت من فكري طموح الهجرة الى أستراليا بمعونة من القبطي المصري “حسني” المتزوّج من قريبة ثاني أهم شخصية في العراق وقتها “طارق عزيز”.. كان حسني يمتلك من العلاقات ما نحسده عليها نحن العراقيون.. رتّبت معه أمور السفر التي ألغيتها حال قرب تحقيق رجائي الأهم..! أقل من نصف ساعة على وصول الصحف وإذا بشخص أنيقٍ كثّ الشارب بصورة ملحوظة، مفتول العضلات التي ترتسم من تحت حلّته التي يرتديها بلونها الزيتوني المميّز، يقترب مني ويسألني عن صحف اليوم.. أجبت.. كل الذي تراه هو لصحف الأمس وما قبلها وكلها الآن استلمتها وأن صحف اليوم ربما تصل غداً بسبب الأوضاع وصعوبة النقل والحركة خوفاً من طائرات الأعداء التي تستهدف أي حركة تشك أنها “مريبة”..! راح الرجل يقلّب الصحف ويختار الثورة، الجمهورية، القادسية، العراق، بابل، البعث الرياضي، وكانت المستحدثة (البعث السياسي) والنداء والسياسة كويتيتان استحدثت الأولى وتم “تعريق” الثانية.. كما حمل مجلة ألف باء والساهرون والمحلية جريدة الحدباء.. كان سعر النسخة الواحدة للصحف لا يتجاوز (50) فلساً أي درهم (عملة معدنية) وهو من الأجزاء الصغيرة للدينار العراقي الذي كانت له قوته رغم كل ما قيل عن ضعفه وللتأكيد كان راتبي التقاعدي حينها يصل إلى (88) ديناراً وكان يكفيني ويزيد وأوفّر منه..! أخرج من جيبه رزمة نقود ونقدني منها ورقة واحدة من فئة ألـ(25) دينار.. من تلك التي تحمل صورة الرئيس صدام حسين.. قبل أن أخبره بأني لا أمتلك الباقي لصرفها.. قال لي (خلي الباقي لك) كان المبلغ كبيراً جداً لأن راتبي التقاعدي كما قلت لم يتجاوز وقتها ألـ(88) ديناراً وهو أعطاني ما يزيد عن ربعه دفعة واحدة عن حاجات لا يتجاوز سعرها بالكاد الدينارين فقط.. ثم ذهب..! راقبته بعيني.. حتى وجدته يتجه صوب المرقد الذي كنت أرى بوابته من مكاني وهناك يختفي..! من خلال الحديث الذي تم تناقله وتداوله من أبناء المنطقة التي تحيط بالمرقد “سراً غير معلن الا المقربين جداَ”، عرفنا لاحقاً أن صدام حسين كان يتخذ من ذلك المرقد مقراً له ساعة القصف الأمريكي، متأثراً بالروايات التي كانت تقول بأن كل الطيارين الذين حاولوا قصف تلك المنطقة كانوا يرونها (بحراً) أو (نهراً) عظيماً ولا شيء سوى المياه كعنوان للمنطقة وما يحاذيها..! أجل تم التأكيد بلا خوف هذه المرة، بعد أيام ومن خلال سكان المنطقة (قرية النبي يونس) وهكذا كانت تسمّى تأكدنا يقيناً و(علناً) بأن الرئيس كان هناك وأن من نقدني مبلغ الصحف هو أحد أفراد حمايته.. بقيت أحدّث نفسي.. الرئيس كان قربي ولم أشعر به.. أي حظٍ هذا.. كنت أرغب اللقاء به.. من كان لا يتمنى مصافحة الرئيس.. وحدها عملية المصافحة تلك تجود على من ينالها بمبلغ يصل إلى (1000) دينار عراقي يعني ثلاثة آلاف دولار بزيادة.. هذه كانت العملية البروتوكولية المتبعة لمن كتب له السلام باليد على الزعيم العربي والعراقي الكبير..! عقب هدوء عاصفة القصف الأمريكي بفترة ليست بالطويلة، صدرت الأوامر ومن أعلى جهة في العراق “صدام حسين” لا غيره لإعمار جامع ومرقد النبي يونس عليه السلام.. إضافة لتحويل المنطقة المحاذية له لمعلم سياحي ديني وهو ما حصل بالفعل وتحوّل المكان إلى قبلة الناظرين لمشهده الخلّاب وارتفاعه الشاهق عن الأرض وما تم زرعه من أشجار مختلفة بينها النخيل وفرشت الأرض باللون الأخضر مع بناء درج بطريقة هندسية جميلة وإيجاد طريق تم تبليطه لوصول السيارات والوقوف قرب بوابة الجامع بسهولة ويسر… كان الجامع يطل على أشهر سوق في الساحل الأيسر وهو المسمّى سوق النبي يونس الذي انتعشت الحياة فيه أضعاف مضاعفة عن التي كانت قبل ذلك..! قبل آذان المغرب بلحظات تعالى صوت انفجار هائل اهتزت بسببه أركان منازلنا.. وكأن زلزالاً هائلاً ضربنا وأجبر كل البيوت على أداء الرقص والتمايل ذات الشمال واليمين..! دقائق وارتفعت أصوات التكبير من جديد وأعلن “رسمياً” عن هدم مرقد ومئذنة جامع النبي يونس عليه السلام، نتيجة لفتوى أصدرها “مفتي الدواعش” المدعو (شفاء النعمة) الذي لا يعلم على أي الأسانيد اعتمد لهدم أحد أهم وأبرز المساجد الإسلامية الذي يعدّ من التحف المعمارية التي استطاعت الأجيال المتعاقبة حفظها.. عمّ الصمت كل أرجاء الموصل.. تعالى النحيب المكبوت خوفاً من وصوله إلى “الدواعش” الذين اشتد عودهم وقويت شوكتهم أو مناصريهم الذين زحفوا من أطراف الموصل مع الخلايا “الموصلية” النائمة التي كشفت عن نفسها بالكامل..! شعرنا ساعتها بأن عزيزاً لا يعوّض فقدناه ولم يبق أمامنا نحن المجردون من كل شيء سوى النحيب كالنساء.. كيف لا ونبي الله يونس ينسف قبره والأوغاد يعلنون “إن كان حقاَ نبياَ ودفن هنا ليدافع عن نفسه”..!
صعدنا إلى أسطح منازلنا وكل واحدٍ منّا راح يروي ما شاهده من لحظات اغتيال أهم معلم تاريخي وديني وحضاري كانت تفاخر به الموصل حتى ساعة تنفيذ حكم الإعدام (التفجير) فيه وتناثر منارته وما تحتها.. كان عملية التفخيخ مدروسة ولا يقدر على تنفيذها إلا من امتلكوا الخبرة بعلوم الهندسة والفيزياء والمفرقعات والديناميت، لأن هكذا عملية لم تتسبب بهدم كامل المبنى (الجامع) وإنما فقط المئذنة العملاقة وضريح النبي يونس عليه السلام..! كما يعني أن هناك قوى خارجية هي من تقود وتخطط وتدبر كل شيء، بل هي من تحرّك ما يسمى بجماعة (الدولة الإسلامية).. كانت الاتصالات موجودة حين رنّ جوالي.. كان الدكتور سعدون ناصر يسألني والدموع التي تخرج من عينيه أشعر بها تمزّق أحشائي.. يسألني بانفعال وهو غير مصدّق.. هل حقاً فجروه.. أجيبه وأنا أبكي.. نعم دكتور.. فجروه بلا وازع من دين أو رحمة.. هؤلاء القتلة الكفرة.. قل بربك يا دكتور ماذا نفعل..؟ فجروه وكشفوا عن نواياهم بعد أن أسقطوا ورقة التوت التي كانوا يسترون بها عورات أفعالهم القذرة.. هذا المرقد الذي بقي شامخاً لقرون ولم تدنٌسه يد ولم تنل منه حتى حروب المغول وزحف نادر شاه، تم محوّه بسرعة وأصبح وكأنه لم يكن..! حاولوا نبش قبر النبي يونس (بحثاً عن جثته) ولكنهم توقفوا عن ذلك ولا أحد يعرف أسباب ذلك التوقّف، حتى انكشفت نواياهم بعد مدّة من الزمن حين جلبوا الحفارات (اللولبية) العملاقة التي لا يوجد مثلها إلا بالدول المتقدمة حصراً وكانت الحفارات تحفر ليل نهار بحثاً عن الآثار الآشورية التي تملأ المنطقة وشعرنا ساعتها وتيقنّا بأنهم يتحركون وفق أجندة أعدّت لهم ويسيرون بها ويطبقونها حرفياً.. نحن لا نساوي أي شيء بنظرهم.. حالنا كحال أي مجموعة من الأسرى.. ورقة يلعبون بها ومن بعد يتخلصون منها..! كانت بيوتنا تهتز يومياً وهم يحفرون ما يقولون بأنها أنفاق تحت المرقد وألـ(تل) أو التلَول القريبة الأخرى لتكون ملجأ لهم من غارات الطيران التي لم تحصل..! لا أحد يسألهم ومن يفعل بدافع الغيرة على المدينة، يتم حمله مقيّداً ولا أحد يعرف مصيره وحتى من يحاول ان يسأل عنه هو الآخر يختفي..! كان التركيز بعد تثبيت أركان أعوانهم، ينصب على إلقاء القبض على البعثيين السابقين والمثقفين بكل عناوينهم ورجال الدين ممن يعارضون أفكارهم سراً أو علناً فيما كانت عمليات مطاردة ضباط الجيش السابقين ومن يسمّون برجال الطريقة النقشبندية (أشد المعارضين لهم حينها) تجرى على قدم وساق..! بهذه الطريقة من التعامل وما طبقّوه توالياً لطرائق التعذيب بحق الأهالي أو غير الموالين لهم، بسطوا سيطرتهم على مدينة الموصل المجرّدة مسبقاً من السلاح..! نعت الموصل نبي الله يونس عليه السلام وقتلته الجدد كانوا يتفاخرون بكونهم (مسلمين) يتبعون سنّة النبي المصطفى محمد صلّى الله عليه وسلم وهم الأبعد عنها..! ظهر المنافقون ممن راحوا يدّعون بكونهم موالين للتنظيم من (زمان) وأخذ الكثير منهم يتكلّم باسم التنظيم وأفصح بعضهم عن العمليات التي كانوا ينفذونها (قتلاً أو تفجيراً) بحق المواطنين العزّل أو الجهات الأمنية وكيف كانوا يخرجون من المعتقلات بسهولةٍ ويسر لأنهم يتعاملون مع قيادات أمنية بالمحافظة وخارجها.. وبالدولار كل الأبواب المقفلة تفتح لك..! ألم يفتح سجن بادوش وبقية سجون المحافظة لهم ويتحوّل السجناء إلى (مقاتلين) في “التنظيم” بعد إعلانهم التوبة على أيدي قادة وأتباع (داعش) ومن بعدها الولاء المطلق.. لصوص وقلة ومنتهكي أعراض وحرمات وأموال ودور (تحوّلوا) في ليلة وضحاها إلى (دعاة) وحماة للدين وتطبيق الشريعة وكل من تسأله عن تاريخه الإجرامي والأخلاقي يردّ عليك.. الإسلام يجبّ ما قبله..! تفجير جامع النبي يونس لم يكن الوحيد، أعقبه سلسلة من التفجيرات.. طالت مراقد أخرى خاصة بالمسلمين وبكافة طوائفهم.. فيما تم الاكتفاء برفع الصلبان من فوق أسطح الكنائس بعد نهب محتوياتها وما كان فيها من نفائس الآثار كالكتب التي لا تقدّر بثمن وغيرها من الرقع التاريخية والدينية، أما بقية الديانات فتم هدم معابدهم لاحقاً..! تم تسوية جامع النبي شيت عليه السلام بالأرض ومراقد لأولياء آخرين.. الكل كان يتذمّر مع نفسه ويخاف إظهار مشاعره الحقيقية علناً.. لأن الموت والتمثيل به أسهل ما يمكن أن يواجهه.. كيف لا والكل شاهد كيفية رمي الأشخاص من فوق أعلى بناية في الموصل وهي مبنى السوق المركزي (اورزدي باك) القديم المواجه لمبنى محافظة نينوى بدواعٍ واتهامات مختلفة من بينها تهمة اللواط والتي كانت تبنى على شهادات أغلبها (ثأرية) أو تصفية حسابات..! رجموا النساء والرجال وجلدوهم لأتفه الأسباب.. كانت تلك رسائلهم لتركيع أهالي الموصل.. السوط والحديد والنار..! وصل التشدد لمراحل عالية من التنكيل.. وتتلاحق عمليات إصدار الفتاوى التي طالت تحريم وتعاطي التدخين بأنواعه وإلزام تطويل اللحى وتقصير (إزار) الملابس ورفع أي علامة أجنبية كانت موجودة على تلك الملابس (رياضية) كانت أو غيرها.. أصبحت الأندية الأجنبية ملحدة وكافرة ومن يتابعها فهو كافر.. بدأت أزمة الوقود تظهر للسطح رغم تواصل وصوله من المركز بكميات محدودة لا نعلم كيف تدخل وتحت أي مسمّى.. لأن ما يجبى من إيراد عن بيعه يكون لهم لـ(الدواعش) حصراً.. كونهم ورجالهم فقط من يسمح لهم بيع المنتج..! كان ارتباط الدوائر بالمركز (العاصمة) هو الآخر لم ينقطع عبر مراجعات واستلام رواتب وغيره من الأمور الأخرى.. كان “الدواعش” يتقدمون من كل الجهات إلا جهة واحدة وهي صوب كردستان العراق..! كانت هناك محاذير أو اتفاقات أو توجيهات ملزمة لهم تجبرهم عدم تخطيها.. سيطراتهم التي نصبوها لا تبعد سوى أمتار قليلة عن تلك التي تعود لحرس إقليم كردستان العراق..! سيطروا على كل شيء وحتى الساحات الخاصة بالفرق الشعبية (هواة كرة القدم) لم تسلم منهم وسلموها لموالين أو مناصرين لهم لاستثمارها والعمل فيها.. بمقابل يدفع لهم..! كل أهل الموصل يعلمون بمن تعاون وجمع الثروات نتيجة تعاونه معهم ومساهمته تنفيذ أجنداتهم التي لم تقف عند حدودٍ معيّنة.. حتى مقرات الأندية وتوابعها تم جردها بمعية إدارات تلك الأندية واستلام مفاتيحها ومقدراتها ووضع من يثقون به هم داخلها ومن ثم حوّلوا بعضها لمخازن تحتوي أسلحتهم أو ثكنات لتدريب عناصرهم والنوم فيها..! كانت هناك اتصالات تأتيني بين فترة وأخرى وكنت أتلقاها بحذر شديدٍ.. البعض لم يتغيّر معي، بل وحاول مساعدتي بكل ما استطاع ومنهم الصحفي المغترب سمير الشكرجي “رومانيا” الذي ما أن استطاع الكلام معي حتى أبلغني بأنه حوّل لي مبلغ من المال ليساعدني وأفراد أسرتي على ترك الموصل.. لم استلم المبلغ إلى اليوم ولا أدري هل استرده الشكرجي أم لا.. وتكرر الحال معي..! فجأة جاءني اتصال من قطر وكان الدكتور حارس محمد أخبرني بأنه أرسل لي هاتفاً نوع (سامسونك دوز 3) مع رئيس اتحاد الكرة العراقي عبدالخالق مسعود.. كي يسهل التواصل بيننا عبر الانترنيت، خشية من مراقبة الاتصالات عبر شبكات آسيا سيل وكورك وزين وفانوس التي يسيطر على مقراتها التنظيم.. قلت له لماذا يا دكتور تكلّف نفسك.. ثم كيف سيصل اليّ في هذه الظروف..!؟ قال لا تهتم اتركها على الله وهو يسهّل الأمور.. بالفعل استلمت الجوال الجديد حين أرسله الملا عبدالخالق مع أحد سائقي خط نقل “موصل أربيل” وبات ذلك الموبايل هو الوسيلة الوحيدة لي لاحقاً للتواصل مع العالم قبل أن أهجره هو الآخر لتنامي قدرة داعش بالأمور الأمنية والاستخباراتية وتتبّع الاتصالات بكل أنواعها..! لم أقطع التواصل مع صديقي الأخ سعد علي وهو مهندس عراقي يعيش في الأردن بعد هجره للعراق أعقاب الحرب الطائفية التي كادت تكلّفه حياته.. كان يخفف عني الكثير لأنه سبق وتعرّض لإصابات خطيرة في جسده بسبب الأحداث التي طالت بغداد في فترات مختلفة.. حتى نجّاه الله وكان عزائي ما أسمعه منه وكم حاول أن يصبّرني حتى أثبت أو أصمد لترك المدينة، لأن انهياري يعني ضياع أسرتي التي تحتاج لكبير يرشدها ويسير بها وسط المخاطر في قابل الأيام..! تمضي الأيام وبعدها الشهور والأمور تزداد سوءاً في الموصل.. تم ايقاف زحف “التنظيم” الذي وصل إلى مشارف بغداد وضواحيها، بل بات على مقربة من مطار بغداد الدولي.. هنا ظهرت فتوى الجهاد الكفائي التي أصدرها المرجع الأعلى السيد علي السيستاني والتي وما أن راحت تطبّق على أرض الواقع، إلا وتم استعادة الثقة بالقوات الأمنية التي أعادت تنظيم نفسها مستعينة بجحافل من الحشد الشعبي والمتطوعين الذين لم يكن لهم همّ أو غاية سوى تحرير أرض الوطن من الغرباء الذين وجدوا لهم موطئ قدم ومن أصبحوا لهم أتباع وعبيد ليأتمروا بأوامرهم وتطبيقها وإن كان الضحايا هم إخوة لهم بالوطن..! تواصلت مع الدكتور حارس محمد نجم المنتخبات الوطنية العراقية وكرة الموصل الذي احترف التدريب في قطر مطلع (1994) الذي جمعني فيه آخر لقاء جرى بيننا في أرض الدوحة خلال دورة الألعاب العربية التي احتضنها القطريون نهاية العام 2011.. كنت أشرح له ما يجري معنا.. كان التأثر حاضراً علينا، لا يحتاج لشرح أو وصف.. حاول الرجل أن يصبّرني هو الآخر وناقش معي كيفية خروجي لوحدي على الأقل وترك الموصل لأن هؤلاء لن يتركوني مهما حاولت أن أخفي نفسي ولا أظهر علناً.. أنا شخص معروف وسهل جداً الوصول لي إن فكروا بذلك (وجه تلفازي)..! حاولت ترك الموصل مع إيماني بذلك ولكني غالباً كنت أتراجع خوفاً ليس على نفسي وإنما على مصير عائلتي بعد أن كشفوا المصير الذي يطال من يحاول ترك أرض (خلافتهم) المزعومة ولا يستثنى من ذات المصير أفراد عائلته..! قلت.. لأجرّب حظي ومن يدري كيف تصبح الأمور.. وضعت خطة بالتعاون مع زميل صحفي وصديق مقرّب لي هو إياد الصالحي رئيس قسم الرياضة في جريدة المدى العراقية.. نويت الهرب من العراق نهائياً وترك كل شيء خلفي.. اتفقت مع أطراف يتعاملون بتهريب (البشر) لتحقيق غايتي.. لكن ابتكار التنظيم لطريقة تتمثّل باجبار المسافر على العودة، نسف كل خططي التي قبرت بسبب خوفي على أسرتي من ألـ(سبي) الذي كانوا يلوّحون به للمرتد ممن يترك أرض ألـ(خلافة) على حد زعمهم وكم من عائلات هتكت لأن أحد أفرادها هرب ناجياً بنفسه..! كنت أنتظر (مستحقاتي) المال الذي حوّله لي وكيلي الاعلامي إياد الجوراني، كي أستخدمه للهرب بداعي العلاج وهي الحجة الوحيدة التي بقيت لي.. ولكن المبلغ ورغم تسليمه لصديقٍ لي في اربيل.. لم يصل منه “لي” درهماً واحداً..!
بل انقطع تواصل من استلم المبلغ من إياد ومن جعفر العلوجي وابنه أحمد إضافة للذي تم تحويله من قبل الزميلين احسان العاملي ورائد محمد عن عملي وكتابتي في جريدة “مونديال” تحت اسم مستعار أكشفه هنا وهو (كاسبر العراقي) إلى ما بعد التحرير..! لم يقطع التواصل مع بغداد وأهل الرياضة فيها وبحكم العلاقات التي املكها مع اللجنة الأولمبية العراقية، تمكنت من إقناعهم بصرف منحة المال لسنة (2014) الخاصة بممثلية نينوى واتحاداتها الفرعية ورواتب العاملين بعد أن اتفقنا أنا والدكتور خالد محمود عزيز رئيس الممثلية على ذلك وكان الاتصال بالسيدين رعد حمودي رئيس اللجنة الأولمبية ونائبه بشار مصطفى والمدير التنفيذي جزائر السهلاني الذي نقل لي لاحقاً تحيات الكابتن رعد حمودي الذي أوصاه بأن يبلغني، أن أترك الموصل وأنجو بنفسي وأهلي وهم يتكفلون بي و أسرتي ويستأجرون لنا داراً ويوفرون لي دخلاً عن عمل يكفيني الحاجة.
لا أنكر بأني فرحت بذلك الاهتمام الكبير.. خصوصاً وأنا من أنتقد اللجنة الأولمبية بأشد وأقسى ما كتب ضدها والعاملين فيها عبر التاريخ القديم والحديث ومع ذلك كانوا يفكّرون بي و أسرتي وكيفية مساعدتي وإنقاذي..! قلنا أن شروط التنظيم كانت صعبة وما يمكن أن نتعرّض له من مخاطر رغم الإيمان بأن الذهاب صوب بغداد يعني النجاة من الموت الذي نعيشه عدة مرات في اليوم الواحد.. أوفت الأولمبية العراقية بكلامها وصرفت المال لأهل رياضة نينوى.. تم توزيع المبالغ في منطقة بعشيقة قبل احتلالها من داعش هي الأخرى.. وبعشيقة التي لا تبعد سوى نصف ساعة عن مركز الموصل يقطنها أطياف من العرب والأكراد والايزيديين والمسيحيين اشتهرت بتصنيع (العرق المحلي) والمخللات والزيتون وملحقاته مع (الطحينية) عصير السمسم.. كانت منطقة مسالمة نلجأ إليها للسياحة وحضور احتفالات الايزيديين السنوية التي يحضرها ناس من كل دول العالم لوجود المعابد المقدّسة عند هذه الشريحة.. كانت هناك وقفة مبادرة أخرى لا توصف أو تختزل بكلمات تجاه أهل الرياضة أقدم عليها رجال من إدارة اتحاد ألعاب الساحة والميدان العراقي المركزي.. حيث تشكّل وعلى الفور فريقاً للتواصل مع اللاعبين والمدربين والإداريين (المواصلة) عبر تحويل مبلغ من المال بين فترة وأخرى يتم من خلاله شراء المواد الغذائية التي توزّع عليهم دورياً واستمر عمل ذلك وبتكتّمٍ شديدٍ طيلة فترة احتلال داعش للمحافظة.. أغلب ما حصل بما يخص المساعدات وتوزيعها في الموصل كان بإشراف الدكتور ربيع عبدالوهاب لاعب دولي ومدرب المنتخبات الوطنية مع بعض الأشخاص من الكتومين جداً من أهل اللعبة.. لأن معرفة “الدواعش” بأي تواصل خارج المدينة من دون علمهم واشرافهم معناه الموت الأكيد على من يقترفه..! من الغرائب التي باتت نتندّر بها هي بقاء تيار الكهرباء الوطني مستمراً لفترة امتدت لشهور من دون انقطاع.. وهو الذي لم نكن نراه سوى لدقائق أو بالكثير ساعتين فقط باليوم قبل الاحتلال..! فيما راحت مختلف البضائع تتدفق على الموصل ومن شتى بقاع الأرض.. وكنّا نسأل.. كيف ومن أين وما هي تلك السلطة أو العلاقة التي تجعل التنظيم بهذه القوّة ولماذا يعلن الجميع عداءهم له علناً وتعاونهم معه سراً..؟ انخفضت الأسعار بشكلٍ لا يحتمل أو يهضمه عقل..! حين كنت أسأل عن أسعار السلع من قبل معارفي في العاصمة وأجيب سائلي بما اعرف.. كان يعتقد أني أبالغ أو اتصنّع ما أقول.. من حقّه عدم التصديق، لأني أنا وغيري كثر لم نكن نصدّق الأسعار التي أصبحت عليه..! في أحد الأيام وقبل تطليقي للطرف الصناعي.. كنت وصديقي محمد فتحي نسير في الدواسة.. رأينا ما يسمّى مسؤول بيت المال عندهم ويطلق عليه “كنية” أبو حسن.. كان برفقته شخص آخر.. هو الذي كان يمتطي أحد الخيول في الاستعراض الكبير الذي أجراه “الدواعش” في ساحة الاحتفالات.. سألنا بعض المتواجدين، فعرفنا بأن ذلك الشخص هو (والي الموصل الجديد) بحسب تسمياتهم.. كان يرتدي (فروة حورانية “ما يشبه القبّوط تصنّع من جلد الخروف ويتقن سكان برطلة وقره قوش والحمدانية وجلّهم من المسيحيين صناعتها بمهارة”) كان يضع على كتفه تحت ألـ(فروة) سلاحاً لا يظهر إلا لمن يدقق فيه.. كان السلاح أمريكياً يشبه ما يظهر في أفلام الأكشن..! الصدفة وحدها جعلتنا نعرفهم لأنهما كانا يسألان أصحاب المحلات عن أقيام الإيجارات ويوجهونهم حول كيفية دفعها..! كان مسؤول المال قصيراً جداً فيما كان الذي معه (الوالي) ضخماً بشكلٍ لافتٍ للعيان ويكشف عن رأسه الذي امتاز بشعره الأحمر القاني ولحيته شبه الطويلة الممزوجة بين اللونين الأحمر والأصفر ووجود بقع (نمش) على الخدين ظاهرة للعيان.. لم ينطق بأي حرف وترك الكلام للقصير الذي (كنّاه) بأبي حسن وطلب من أصحاب المحلات أن يراجعونه وهو يرشدهم بكل التفاصيل حول كيفية تسديد الإيجار لهم وبعكسه يتم إخلاء المحل..! طبعاً تلك المحلات تعود إما للأوقاف أو أن أصحابها ممن هم خارج العراق أو من إخوتنا المسيحيين الذين أجبروا على هجر المدينة أو أولئك الذين هربوا مع الهاربين من جحيم “تنظيم الدولة”..! كنت لا أطيق بعداً عن زيارة الدواسة وأصدقائي المتواجدين فيها.. وهنا لابد من التعريج على ذلك اليوم الذي امتلأت فيه سماء الموصل بالطائرات الحربية.. كنت بالقرب من مكتبة الضحى المجاورة لسينما الأندلس لصاحبها مهند داؤود.. كان يحدثني “مهند” عن كيفية أخذه للتحقيق بسبب بعض المجلات القديمة التي كانت تظهر وجوه قسم من النساء وكيف أنه تعرّض للمهانة على أيديهم والتوقيع مجبراً على تعهد خطّيٍ برفع أو إخفاء أي صورة تكشف عن الوجه أو العورة والا العقوبة ستكون شديدة جداً هذه المرّة ولن يكتفوا بالجلد فقط..! في هذه الأثناء مرّت جحافل لأشخاص قيل عنهم، بكونهم شيوخ العشائر.. كانوا جماعات وفرادى يتجهون صوب مبنى المحافظة لأمر ما.. بقيت الطائرات تحوم في السماء وعلى ارتفاعٍ منخفضٍ جداً.. وكأنها ترصد ما يحصل..! علمنا من بعض الذين توقفوا لشراء حاجيات من مكتبة مهند أن هناك دعوة واجتماع لشيوخ العشائر مع شخصية مهمة في “تنظيم الدولة”..! قلت لمهند سأذهب إلى البيت، لأن المكان بات غير آمن.. وربما تقوم الطائرات بقصف مبنى المحافظة الذي يقع بمدخل الدوّاسة تقريباً وهو لا يبعد عنّا كثيراً.. هنا اتفق معي أبو سيف وقام هو الآخر على الفور بغلق محله وغادرنا كلاً باتجاه بيته.. بعد ساعتين أو أقل.. أعلن عن وجود بيعة تم أخذها من أولئك الشيوخ قدّمت لنائب “الخليفة محمد العدناني” وهو الذراع الأيمن لأبي بكر البغدادي..! عند اليوم التالي حاولت الخروج بحثاً عن مكانٍ استلم من خلاله راتبي التقاعدي.. أفلحت بذلك وما أن استلمت المبلغ حتى وجدت شخصاً يصرخ بي (الصلاة الصلاة).. قلت له لست على وضوء وظرفي صعب ولابد من الوضوء.. تعالى صوته وراح يزجرني، بل ويجبرني على الذهاب إلى الجامع القريب وكان جامع رشّان في حي المثنى.. قلت له: وأنت لماذا لا تذهب للصلاة؟ فردّ “انا مكلّف بالسهر على راحة الرعية وتطبيق الشريعة”.. أخبرته أني سأذهب الآن إلى الجامع وصدقاً قدت سيارتي بسرعة هائلة ولم أتوقف قرب الجامع المذكور الذي يبعد عني وعنه خطوات ليست كثيرة، بل وفكرت ساعتها أن أقطع كل صلة وعلاقة لي بالدين..! لا أنسى صديقي الملتزم دينياً الذي تواعدت معه للخروج وزيارة بعض الأصدقاء يوماً والذي تأخر عليّ بسبب تأديته للصلاة في بيته.. حال خروجنا للشارع العام أوقفنا شخص يحمل السلاح وقال لنا.. لماذا تسيرون في الشارع الآن انه وقت الصلاة وهذا كفر وحرام وراح يشرح بحسب فهمه هو عن الحلال والحرام..! لم يتركنا إلا وقد أجبرنا على أداء الصلاة (الفرض) لمرتين مخالفاً بذلك الشرع والسنّة ومن يومها صديقي تارك للصلاة وأنا بقيت بين الترك والعودة بحسب الظروف، أما هو فأقسم أن لايعود بعد تلك الإهانة (الدينية) للدين رغم التزامه الذي كنّا نحسده عليه قبل أن يغيّر بوصلته..! منحوا أنفسهم سطوة وحقوق، حتى باتوا وكأنهم أرباب لنا بدلاً عن الله الإله الواحد.. نسير بالذي يخرج عن أصغرهم وليس أكبرهم.. ومن ذا الذي يعترض وهو يعلم ما ينتظره..؟
يتبع- ترقبوا.. ترقبوا.. ترقبوا.. كيف ومن أين تأتي وتباع المشروبات الروحية؟ من يسيطر على سوق السجائر وتبغ الأراجيل؟ كيف تحوّلت مطاعم الموصل للدواعش من دون غيرهم؟ انخفاض أسعار اللحوم وأهل الموصل يعزفون عنها لمعرفتهم بمصدرها الجهاد الأعظم لأي موصلي تمثّل بالحفاظ على أسرته وإبعاد أولاده عن الوقوع بحبائل التنظيم انتشار الحراقات بالموصل وظهور أنواع مختلفة للوقود وبأسماء لم نعهدها من قبل هروب محمد فتحي وعائلته وتركي لوحدي بلا صديق أثق به كسر ظهري حال التضييق على الصحفيين والإعلاميين والبحث عنهم كنت أتنقل في بيوت الأقارب والأصدقاء الذين ملّ بعضهم وجودي كثيراً ما اختفيت ولم أر الشمس لأيام وأسابيع خوفاً من بطشهم آلاف المواصلة لا يعرف مصيرهم إلى اليوم وحكايات مروّعة عن الخسفة التي ابتلعت أغلبهم تنويه: كل الحقوق محفوظة لمؤسسة “النهار نيوز” والكاتب المؤلف.. طلال العامري..