الكاتب/طارق الطرفي
لم يعد بإمكان الآيزيدي ذكران الفاتي وعائلته المؤلفة من زوجته وطفليه ممارسة عاداتهم وطقوسهم الدينية بعد أن هاجروا نتيجة إحتلال جماعات داعش الإرهابية في شهر أب من العام 2014 لقضاء بعشيقة بمحافظة نينوى شمالي العراق حيث سكنهم منذ سنين عدة، والذي تركوه لينجوا بحياتهم ولم يتمكنوا من أخذ شيء منه سوى بطاقاتهم الشخصية.
يقول ذكران ذو الخمسة والثلاثين عاماً، إستطعنا أن نهرب الى محافظة أربيل بإقليم كردستان وقتما سيطرت داعش على مركز مدينة الموصل ومن ثم إحتلت قضاء سنجار وأصبحت على مشارف مدينة بعشيقة التي ولدنا فيها، وبعدها خرجنا الى تركيا ومنها هاجرنا بمساعدة المنظمات الدولية.
ويضف الفاتي، إن مكان إقامة طقوسنا هو في العراق فقط وأصبحنا الآن محرومين من أدائها لا سيما حجّنا الى معبد لالش الذي يعتبر المعبد الرئيس والوحيد لنا، إذ نجري هناك طقس التعميد الذي لابد منه لأطفالنا الذين يولدون حديثاً.
ويذكر الفاتي، إن إجرام جماعات داعش التكفيرية لم يقتصر على تهجيرنا وقتل وأسر العديد منّا بل هدموا الكثير من الأماكن الدينية والمزارات والمراقد الخاصة بنا، بحجة أنها أماكن شرك وينبغي أن لا تكون.
معبد لالش المقدس
بوادي لالش في قضاء شيخان (شمالي محافظة نينوى) ووسط ثلاث جبال ذات أشجار كثيفة تتخلها عيون الماء يقع معبد لالش المقدس وهو المعبد الرئيس لأبناء الديانة الآيزيدية الذين يحرصون على السير حفاة في هذا المكان تعظيما لقدسيته، وتُرّجح بعض المصادر الى أن تاريخه يعود الى القرن الثالث قبل الميلاد، ويحج إليه الآيزيديون ويؤدون طقوسهم الدينية فيه لا سيما طقس التعميد.
تهديم المزارات وفقدان الخصوصية للآيزيديين
إن هجرة العديد من أبناء الديانة الآيزيدية من العراق أثرت سلباً بالحفاظ على الخصوصية الدينية والثقافية لهم ومنها ممارسة الطقوس والعادات، إذ أصبح غير ممكناً لهم إقامتها في البلدان التي يقيمون فيها الآن ولكون رموزهم وآثارهم الدينية هي فقط في العراق، بحسب حديث حسام عبد الله مدير المنظمة الآيزيدية للتوثيق.
ويعتبر عبد الله عملية تشتت وتفرق الآيزيديين الى مختلف المناطق والدول بأنها ستُفقد أجيالهم القادمة تلك الخصوصية لإختلاطهم بمجتمعات أُخرى على الرغم من نشوء بعض المؤسسات والمنظمات التي تهتم بشؤونهم في المهجر.
ويؤكد مدير المنظمة الآيزيدية، إن الابادة التي طالت الآيزيديين على يد الجماعات الإرهابية لم تقتصر على البشر بل شملت حتى آثارهم ومقدساتهم ورموزهم لمحو هذه الديانة والهوية الثقافية والنوع المجتمعي في العراق، إذ هدم الإرهابيون نحو (86) مزاراً ومرقداً دينياً آيزيدياً في مناطق سنجار وبعشيقة وتلكيف وبحزاني وسهل نينوى وبابيرا.
الناشط الآيزيدي ميسر الأداني يصف الفكر المتطرف بأنه لا يريد أي نوع من أنواع الأضرحة أو القبور ويرفض كل ما يرمز الى الفن والثقافة، إذ إن الإرهاب لا يرى إلا فكرة وطقوس ديانته ولا يتقبل هذه الأضرحة والتماثيل ويترجمها على أنها مظاهر شركية صنمية، بل لا يؤمن حتى بالثقافة الاخرى ولا التعايش السلمي والتنوع المجتمعي.
الألم واضح على وجه الأداني وهو يتحدث عن تحف التاريخ وصروحه التي طالتها عمليات التخريب على يد جماعات داعش التكفيرية في المناطق التي سيطروا عليها في العراق، وتهديمهم للعديد من الآثار والمزارات والمراقد المقدسة لدى مختلف الديانات ومنهم الآيزيديين.
ويشير بقوله الى إن تدمير المزارات والآثار الخاصة بالآيزديين هدفه فك إرتباطهم بالتأريخ وجعلهم جماعات مشردة بدون هوية حضارية أو إنتماء للأرض.
أقلية لا تملك قوة ولا حزباً سياسياً
يستطرد الشاب الآيزيدي المهاجر ذكران الفاتي ليقول، إن لالش هو المعبد الرئيس والوحيد في دياتنا إذ نحج إليه بالعام الواحد عدة مرات لنؤدي طقوسنا وعباداتنا ونجري طقس التعميد فيه لأطفالنا بعد ولادتهم، والآن عائلتي واحدة من قرابة الـ(400) عائلة آيزيدية لاجئين في ألّمانيا وجميعنا لم يعد بإمكاننا ممارسة طقوسنا الدينية، ولا يوجد بديلاً لنا عن لالش في المهجر.
والحديث مع رجل الدين الآيزيدي خلمتكار فاخر خلف يتجه صوب ظهور الوجه الحقيقي للتطرف من خلال جماعات داعش الإرهابية التي عملت على محو الآخر بإجرامها البشع بقتل وإنتهاك العرض والشرف والمقدسات للآيزيديين.
إذ يؤكد خلف إن في قضاء سنجار فقط هدم الإرهابيون أكثر من (14) مزاراً ومرقداً لشخصيات مقدسة لدى الآيزيديين الذين كانوا يحيون فيها مراسمهم وطقوسهم، وجاءت عملية الهدم تلك لإنهاء ديانتنا وهويتنا، وسبب ذلك لكوننا أقلية مسالمة لا نملك قوةً ولا حزباً سياسياً ولا نرتكب أعمال عنف ولم نكن سبباً بإيذاءِ مكونٍ أو فئةٍ من أبناءِ العراق.
تحرير مختطفين بـ(7) مليار دولار وما زال هناك مفقودين
يذكر ميسر الأداني بحديثه، إن عملية الإبادة البشرية والثقافية بحقنا كانت كبيرة جداً وما زال لدينا أكثر من (2800) آيزيدي مجهول المصير لغاية الان، وقد أهملت الحكومة العراقية هذا الملف كلياً ولا يوجد أي تحرك لها أزاءه، وهذا نتيجة الصراعات السياسية على مناطق سنجار وبعشيقة ومناطق أُخرى.
ويدعم مدير عام شؤون الآيزيدية بوزارة الأوقاف في إقليم كردستان، خيري بوزاني، الحديث عن وجود (2800) آيزيدي مفقود لغاية الآن وهجرة العديد منهم الى خارج العراق ووجود نحو (340) ألف نازحاً في (21) مخيماً ولم يعودوا لمناطقهم منذ سبعة أعوام وهناك من يقيمون الآن في محافظة أربيل، لكنه يستدرك ويقول بأن حكومة الإقليم عملت على تحرير (82%) من المختطفين لدى داعش من خلال مكتب إنقاذ الآيزيديين المختطفين الذي شكلته، مع إقراره بأن حلول إنهاء معاناة الآيزيديين ما زالت ليست بالمستوى المطلوب.
ووفق ما يتحدث به بوزاني فإن عناصر داعش إقتادت معها قرابة (6417) آيزيدياً أغلبهم من الأطفال والنساء بينهم (339) رجلاً، تم تحرير (3455) شخصاً منهم بالفدية وبمجمل أموال بلغت قيمتها (7) مليون دولار دفعتها حكومة الإقليم، إضافة إلى إن أكثر من (300) آيزيدياً أُطلق سراحهم من قبل عناصر داعش بدفعتين لكونهم كبار بالسن من النساء والرجال ومعهم المعاقين.
ملاحقة التطرف لإنهاء إحياء الطقوس عن بعد
ويرى خلمتكار فاخر خلف إن الخطر ما زال قائماً على الآيزيديين ولابد من وجود إهتمام جدي وحقيقي من قبل الحكومة العراقية والمجتمع الدولي لحمايتهم والحفاظ على هويتهم ووجودهم، ويشدد على ضرورة أن تكون الدولة قوية في العراق لتفرض سلطة القانون وليعيش الآيزيديون مع باقي مكونات المجتمع العراقي بسلام وأمان ومنع تعرضهم لإبادة اخرى.
فيما يتجه ميسر الأداني صوب مطالبة المنظمات الدولية والمحلية والمؤسسات الدينية والفقهية والتشريعية بأن تصنّف عمليات هدم وتخريب الأماكن المقدسة والأضرحة لجميع الديانات بأنها جرائم ضد الإنسانية، ومعاقبة مرتكبوها فضلاً عن ملاحقة الحركات والمنظمات المتطرفة التي تحرض على القيام بذلك عبر الفتاوى أو التمويل أو التخطيط أو التشجيع.
مؤلم جداً ونحن نعيش الذكريات مع الأقرباء والأصدقاء من مناطق بعشيقة وشيخان وسنجار الذين كنّا نلتقي معهم في معبد لالش وقد إفترقنا عنهم ولم نعد نراهم، ذكران الفاتي الشاب الآيزيدي المهاجر ينهي حديثه .. بالكاد اُكفكف دموعي لكي لا تراها والدتي التي تتصل بي عبر الكاميرا لاُشاركها الطقوس الدينية في المعبد، ولك أن تتصور محروميتي ولهفتي لبلدي العراق ولمدينتي بعشيقة ومعبدي لالش.