أحمد يحيى الهنداوي
بعد سنوات من الصراع والعنف ، ما السُّبُلُ العملية لتعزيز قيم المواطنة المشتركة في العراق؟ وكيف يمكن للدولة والمجتمع المدني مواجهة خطاب الكراهية والتطرف الذي يُضعف الهوية الوطنية؟
وفي ظل انتشار الجرائم الإرهابية في السنوات الماضية والتَّهجير والنزوح القسري وتَفَشِّي الجريمة وآفة المخدرات، كيف يمكن تعزيز الهوية الوطنية العراقية وجعلها عامل توحيد بدلًا من الانقسامات الطائفية والخطابات العنصرية؟
وهل تؤثر الأزمات المتلاحقة كانتشار الفساد والمخدرات والجريمة وتحديات البطالة والفقر على النسيج الاجتماعي العراقي؟ وما الحلول الفعّالة لاستعادة الثقة بين المواطن والدولة لمواجهة هذه التحديات؟
للإجابة عن هذه التساؤلات ، أودّ الإشارة إلى أنّ المجتمع العراقي قد تعرَّض على مدار العقود الأربعة الماضية إلى سلسلة من الأزمات المتتالية، بدءًا بالحروب المدمرة، ومغامرات القائد الضرورة ، واحتلال البعث المجرم للسلطة طوال ثلاثة عقود متتالية وأساليبه الخبيثة، مرورًا بالحصار الاقتصادي الذي أنهك الطبقات الفقيرة، ووصولًا إلى موجات الهجرة والتَّهجير القسري، وانتهاءً بجرائم الإرهاب التي غذّتها التدخلات الخارجية، والتي تركت جراحًا عميقة في النسيج الاجتماعي.
هذه العوامل مجتمعة أدَّت إلى تراجع المنظومة القيمية الأصيلة للشعب العراقي، وتدهور الحالة النفسية والمعنوية للمواطنين، خاصةً مع تفشي البطالة والفقر وانتشار ظاهرة المخدرات التي باتت تهدد مستقبل الشباب، إضافة إلى ظهور الحركات الطائفية والتيارات الفكرية المتطرفة والجماعات المنحرفة التي نالت حصَّتها من التأثير على المجتمع العراقي.
(تداعيات الأزمات على البنية الاجتماعية والنفسية)
أدت الحروب المتكررة والجرائم الإرهابية إلى زعزعة الاستقرار الاجتماعي بشكل كبير ، حيث فقدت العديد من الأسر معيلها ، مما خلق جيلًا يعاني من الحرمان العاطفي والاقتصادي. كما ساهم الحصار الاقتصادي إبان حكم البعث المقبور في تسريع تدهور البنى التحتية والخدمية، مما زاد من معاناة المواطن العراقي وأضعف ثقته بمؤسسات الدولة.
أما موجات النزوح والتَّهجير القسري، فقد أدت إلى تشتت العائلات وانهيار الروابط الاجتماعية، مما أثر سلبًا على الهوية الوطنية الموحدة. وفي ظل زعزعة الاستقرار الأمني وغياب الوعي الفكري والثقافي، انتشرت الأفكار المتطرفة والثقافات الدخيلة، وتراجعت قيم التسامح والتعايش التي تميَّز بها المجتمع العراقي تاريخيًا.
ولا يمكن إغفال تأثير البطالة والفقر وتدنّي الوضع الاقتصادي في تفاقم الأزمات النفسية، حيث أدت إلى ارتفاع معدلات الاكتئاب واليأس إلى ظهور حالات إنتحار بين صفوف الشباب ، وجعل بعضهم فريسة سهلة لظاهرة المخدرات التي توسعت بشكل خطير في السنوات الأخيرة، مُهدِّدةً الأمن الاجتماعي والصحي.
(الحاجة إلى تعزيز الهوية الوطنية عبر نظام تربوي حديث)
في مواجهة هذه التحديات، أصبح من الضروري إعادة بناء الهوية الوطنية العراقية على أسس متينة، تعتمد على نظام تربوي متطور ومناهج تعليمية حديثة تُعزز قيم المواطنة والانتماء. وهذا يتطلب:
1. إصلاح المنظومة التربوية : من خلال تطوير المناهج الدراسية لتشمل مفاهيم التسامح وحقوق الإنسان والهوية الوطنية الجامعة، مع التركيز على تاريخ العراق الحضاري المشترك.
2. تعزيز البنى التحتية : تحسين الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة، مما يعيد ثقة المواطن بدولته ويحد من الهجرة الداخلية والخارجية.
3. مكافحة البطالة وتشجيع الإبداع : عبر دعم المشاريع الصغيرة وتوفير فرص العمل للشباب، مما يحد من انتشار الجريمة والمخدرات.
4. مواكبة العصر الرقمي : الاستفادة من التطور التكنولوجي والمعرفي في التعليم والإعلام، لنشر الوعي ومواجهة الأفكار المتطرفة والهدَّامة.
وفي الختام أقول : رغم كل التحديات التي مرَّ بها العراق، إلا أن إرادة أبنائه وقدرتهم على الصمود تظل أقوى من كل الدمار، وإن تعزيز الهوية الوطنية يحتاج إلى جهود متكاملة تبدأ من المدرسة وتصل إلى كافة مؤسسات الدولة والمجتمع المدني. فلنعمل معًا على بناء جيلٍ واعد في عراق جديد، قائم على العدل والمعرفة، حيث يصبح التنوع مصدر قوة، والتطور وسيلة لتحقيق السلام والازدهار.