طلال العامري
مبنى مديرية الشباب والرياضة تحوّل لسجن أولي للتحقيق وانتزاع الإعترافات!
دار الضيافة الرياضي أم (بيت الرعب)؟!
الله دفعه لذلك.. أنقذني الجوراني من دون أن يدري!
طائرتان سمتيتان متروكتان حلقتا تجريبياً في سماء الموصل!
طلّقت ساقي الصناعية بالثلاثة كي لا يتعرّفوا عليّ؟
في عزّ الأزمة.. القطّان وجمعة العربي حضرا معي والطرب الأصيل أنساني نفسي!
الاسم الرباعي (قصّته قصّة) !
قبل أن أكمل وكي لا تضيع الحقيقة التي رأينا من الواجب توثيقها كما هي.. أو رأيناها وعشناها، لا كما فعل البعض لغاياتٍ (وحده الله يعلم ما كانت) حين وثّقوا جزءاً وأهملوا أجزاءً..!
عليه نوضّح: بأنه قد ترون في سطورنا تداخلات في الأحداث والتواريخ واليوميات والعودة إلى الوراء والاستذكار، لأن الذاكرة ومهما كانت، فإنّها هي الأخرى عانت الكثير وتحمّلت ما لا يمكن تحمّله.. عليه فإن ما جرى ستجدونه إن كان في هذه السطور أو التي تليها وتليها، بترتيب زمني أو من دونه.. وعليكم أنتم أن تحصروا الفترة التي عشناها من الاحتلال وحتى التحرير وما حصل لاحقاً كلاً حسب ما تعرّفتم عليه أو عشتم فصوله..!
انقلعت ليس برغبتي..!
قالها القاضي: انقلع..!
سحبني الحارس الذي (نفّذ) الأمر بلا نقاش، لأن شعارهم الذي رأيناهم يطبقونه حرفياً.. هو (نفّذ ثم ناقش) وهو يذكرنا بمن سبق وطبّقوه في حقبٍ مرّت ولكن ليس بهذه البشاعة..!
اتجه بي إلى سيّارة أمريكية الصنع سبعة (راكب) حديثة نسبياً، مكتوب على جانبها من جهة الصعود باللون الأخضر (الحسبة)..!
أدخلني فيها، وبصعوبةٍ بالغة جداً استطعت الجلوس فارداً ساقي الصناعية التي التصقت بالمنطقة الحساسة من جسمي..!
تستطيع من داخل السيارة رؤية كل شيء ما لم تكن معصوب العينين..
أما من الخارج فلا أحد يمكن له رؤيتك لأنّ زجاجها كان (مظللاً) بالكامل..!
سارت العجلة لمسافةٍ غير بعيدة وبظرف أقل من ثلاث دقائق فقط وصلت إلى مكانٍ كنت أعرفه، يقع في منطقة الدواسة خارج.. رُفعت العارضة ودلفت السيارة إلى الداخل..
نعم.. كان هو بحدِ ذاته.. مديرية الشباب والرياضة في محافظة نينوى “مركزها الموصل”..
ذلك المكان الذي سبق وامتلأ بأهل الرياضة والشباب بكافة عناوينهم، إضافة للموظفين الذين كنّا نعرف أغلبهم..
كانت الحديقة التي اعتدنا التواجد فيها مع الأصدقاء مهملة، تحوّلت إلى سردق عزاء “باكية بجفاف لافتٍ” وأزهارها مختلفة الألوان (ذبلت) وتيبّست وتساقطت أوراقها قبل الأوان وأغصانها التي كانت تلقى عناية التقليم والتنظيف طالت وتشققت ولم يبرز منها سوى الأشواك التي تدمي من يلمسها..!
لا أدري كيف تذكّرت حين كنت أروم زيارة تلك المديرية للقاء من فيها وطريقة استقبالي التي كانت تجري بحفاوة وتقدير عاليين، إذ ترفع العارضة قبل أمتار من وصولي عن طريق قوات حماية المديرية وكانوا من الشرطة المحلية، لأدخل بسيارتي التي أضعها لاحقاً تحت إحدى المظلات (مسقفات) التي تحميها من أشعة الشمس أو غيث الشتاء حالها كحال أحدث السيارات..!
كنت أعرف كل ركن بل (شبر) في تلك المديرية..
تعدد المدراء قبل وبعد أحداث (2003) والمكان واحد لم يتغيّر..!
اعتقدت لوهلة أن (حارسي) سيدخلني إلى المديرية التي كان يتواجد فيها أعداد لا يستهان بهم من “جماعة التنظيم”..!
ترجّلت من السيارة بأمرٍ من الحارس المسلّح..!
تم استلامي من قبل آخر..
شاهدت من سلّمني يعطيه قصاصة ورقية صغيرة لا أعرف ما كتب فيها.. هل هو “حكم” أم أمر آخر عبارة عن توصية “شديدة اللهجة”..؟!
بدل الدخول إلى مبنى المديرية الباكي من الاهمال، سرنا باتجاه المرآب..
ظننت أنّ هناك، أي خلف المديرية سيكملون التحقيق معي على طريقتهم..!
لكن من أخذني، اتجه بي نحو بابٍ كان يفصل بين مقر المديرية الرئيسي وبين دار الضيافة الملاصق له، ذلك المبنى الجميل الذي تمّ انجازه ليكون وقتها أحد معالم المدينة ويصبح بعد فرشه خير ملاذٍ للرياضيين القادمين من خارج نينوى..!
كنت قبل “سقوط” الموصل و”نكبتها” بفترةٍ ليست بعيدة، أجريت تحقيقاً متلفزاً عن المبنى من خلال برنامج تقارير رياضية الذي كنت أعدّه وأقدّمه من شاشة الرياضية العراقية تلفزيون نينوى الأرضي بصحبة رفيقي المصوّر الحاج وعد الخالدي..
كان المكان عبارة عن تحفة معمارية وسيكون أجمل إن تم إكمال فرشه وتأثيثه بوجود عدّة أجنحة تصل بدرجاتها إلى مرتبة (الوزارية)..!
عبرنا الباب الحديدي الصغير..
رأينا الحديقة التي كانت غنّاء شبه ميّتة هي الأخرى وكأنها تحكي فصولاً من الظلم الذي عانته أو استفزها ما يجري داخل أروقة المبنى الذي زيّنت مدخله قبل أن تصاب بالاحباط الناتج عن جلب أهالي المدينة واذلالهم على أيدي الغرباء أو من حسبوا على المحافظة زوراً وبهتاناً..!
دخلنا عبر الباب الرئيسي الداخلي (الثاني) والذي تتواجد على يساره صالة سبق وخصصت لعقد المؤتمرات الصحفية، يوم كانت النشاطات الرياضية والشبابية والثقافية تجرى فيها وكذلك الندوات التي تعقدها عدّة جهات هناك مستغلة التعاون الذي كان يقدّم من مدرائها بالتتابع..
بناية مؤلفة من عدّة طوابق، لم أستطع أن أتبيّن ما فيها كلها، لأنّهم أدخلوني هناك بصحبة الحارس الجديد الذي جلس قربي كالظلّ وطلب مني الانتظار..!
طالت ساعات الانتظار كثيراً..
شعرت وقتها أن رؤية (زوجتي) تحققت لأنّها رأت (حلماً مزعجاً) وكانت هي كلما ترى هكذا أحلام أو كوابيس تتوسّل بي أن لا أخرج من الدار، بل وحتى تسخّر أولادي للضغط عليّ والتوسّل بي كي أنصاع لهم وكان اثنان منهم لا أستطيع مقاومتهما.. ابنتي الكبيرة وحمودي الصغير آخر العنقود..!
حصل ما حصل
حدّثت نفسي وقلت.. ماذا لو سمعتهم ولم أخرج..؟ الكل يعرف أن “لو” تبقى للتمني الذي لا يتحقق.. ثم عدت وسرحت وأنا أخاطب نفسي علّي أهرب من الواقع الذي فرض عليّ..
سألت نفسي مراراً وتكراراً.. ماذا ربح ذلك الشخص (ف) حين (زمجر) باسمي وكأنه يغنيه بطرب وسط زحام يشبه أماكن بيع الانتيكات.. الكل يصرخ للتعريف ببضاعته.. وأنا من أصبح بضاعته التي عرضها ببخس الثمن وربما بلا ثمن..!
هل كان يقصد ما فعل؟ أم كانت فعلته تلك عفوية اقترفها بغباءٍ، رغم نهره وتحذيره عن تكرارها من قبل الذين سبق وشاهدوا تلك الفعلة التي (تكررت) وكان يمكن لها أن تتسبب بقتلي وأنا غير التائب بنظرهم (إعلامي.. صحفي) يعني (ملحد) أي حتى لست (كافراً) والملحد يجب أن ينال (قصاصه) بحسب شرعهم (هم).. أي قطع الرأس؟!
استعدت شريط الذكريات وما مررت به من مخاطر متمنياً وراجياً لو رحت بنومٍ عميقٍ لا أصحو منه وإن صحوت فأكون في بيتي وبين أهلي وجيراني ليخبروني ساعتها بأني كنت في (حلم أو كابوسٍ مفزع) لا أكثر..!
نهض الحارس.. أشار لي أن أنهض.. استجبت له كما المنوّم مغناطيسياً “مستسلماً” مسلوب الإرادة والفكر..!
كان الرجل منفّذاً للأوامر بحرفيتها، بحيث لازمني وأنا في ذلك المكان الذي لا يمكن لي مغادرته بأي حالٍ من الأحوال.. بقي لأكثر من ساعة يراقبني وكأني أحد أهم المطلوبين عندهم ولست بإنسان بالكاد يمكنه التحرك، بل كانت عيناه تلاحق أي حركة أقدم عليها..!
نهضت بصعوبة بالغة وشعرت أن جسمي (تخشّب) ومع وقوفي اعتدت أن أقفل طرفي الصناعي، كي لا يغدر بي ويطوى تلقائياً حال السير به وأسقط، لكني ساعتها نسيته هو الآخر ومع أوّل خطوة كدت أخطوها، وجدت ساقي الصناعية تخونني و(تنطوي) بسرعة الضوء، لأسقط إلى الخلف وكأني تلقيت لكمة (مقلاع) أسفل ألـ(حنك) أطاحت بي إلى الخلف، لينغرس الطرف الصناعي المصنوع من مادة بلاستيكية تتواجد عليها “حواف” مقوّسة للخارج تشبه السكين في الجهة القريبة من “أعضائي التناسلية” وأحدث السقوط جرحاً لم ألتفت إليه أول الأمر لأن رأسي هو الآخر ضرب الأرض بقوّة وكأن انفجاراً حصل..!
أخذني دوار شديد وأخذت الأشياء تتراقص أمامي، تقدّم الحارس (الشخصي) مني ومدّ لي يده آمراً إياي بالنهوض، حتى قبل أن يعدّ لي من واحد إلى عشرة كما يحصل من أي حكمٍ رحيم يحكم بعدلٍ وخوف على الملاكمين..!
أطعته بعد استلام يده مع أني لم أعد بالعالم من حولي ولثقلي وفقدان التوازن وَترنحي أثناء محاولة النهوض، كدت أسحبه هو الآخر ليسقط فوقي، لكنه وهذا ما أحسست به (كان يمتلك قوّة جسدية لا يكشف عنها امتلاك صاحبها لمثلها لأنّه لم يكن بتلك الضخامة).. وإنما على العكس من ذلك..!
قادني إلى غرفة قريبة كتب على مدخلها من خلال قطعةٍ خشبية خطّت بعناية لافتةّ للعيان “القاضي الشرعي”..!
دخلناها بعد استئذان.. تواجد فيها ثلاثة أشخاص.. كانوا يرتدون الزي “الأفغاني.. الهندي.. الباكستاني” ذي اللون الأبيض مع ما يشبه ألـ(يلك) بدون أكمام يرتدونه فوقه وكان مميّزاً باللون الأسود وبعضهم يختلف اللون وكان أزرق ولا ندري هل كان للألوان واختلافها نوع من التمايز بالمناصب أو الدرجة الوظيفية.. ينتعلون جميعهم (نعلاً) أي (صندل) لا أدري ساعتها لم شعرت أني أشاهد مجموعة من الأبطال أو الكومبارس الذين ظهروا في فيلم الرسالة أو أياَ من الأفلام والمسلسلات التاريخية التي تحكي عن صدر الإسلام..!
أوقفني من كان (يقودني) أمام شخص توسّط المكان.. كنت خائفاً جداً أن يسألني عن اسمي الرباعي.. لأني إن أجبت عنه سأزيد شكوكهم بي سواء بذكر الاسم الرابع أو اخفائه أو تغييره (خوفاً)..!
اعتدنا خلال مراجعتنا لأي دائرة أن نرد عند الطلب منّا بتعريف النفس، بذكر الاسم الرباعي واللقب أو العشيرة، رغم وجود المربّع الذهبي رفيق كل المعاملات الأزلي..!
كي لا نطيل عليكم.. الاسم الرابع هو (عبد الحسين).. وهذا الاسم تحديداً يعدّ تهمة جاهزة بنظرهم وهي لا تحتاج إلى أدلة أو براهين للتقصي وإنما توجب القصاص الفوري..
نويت إن سألوني عنه وأزعجهم، أن أحاججهم ببعض أسماء الصحابة أو اسم جدّ النبي والد اعمامه (عبد المطلب) فهل كان رسولنا الكريم صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وهو النبي المرسل كان له الحق باختيار اسم ابيه أو جدّه صعوداً وهل يمكن أن يؤخذ الإنسان بجريرة اسم أطلق على صاحبه قبل قرن ويزيد بعشرات السنين..؟
قالها ببرود (شو اسمك)..؟
أيضاً اللكنة لم تكن عراقية خالصة وبدلاً عن الإجابة، سلمته هوية الأحوال المدنية رفيقة الدرب ذات الاسم الثلاثي..!
أخذ هويتي تفحصها شكلياً ثم حوّلها لشخص يجلس قربه وطلب منه تدقيق الاسم عبر الحاسبة التي كانت أمامه وهي جهاز (لابتوب) حديث..!
انصاع الثاني لأمر الأول وراح يسألني.. وهو يردد.. أها.. إعلامي، صحفي.. كان لحظتها يقرأ القصاصة الورقية التي رأيتها سابقاً عندما استلمها الحارس الجديد ممن أوصلني..
ثم راح يتحدث بأمور الدين وكيف أنّهم لا يظلمون أحداً ما لم تقم عليه الحجّة بالدليل القاطع والبرهان.. ولكن يا ويلي وسواد ليلي إن ظهر اسمي بحاسوبهم مع المطلوبين وتحديداً إن كنت من جماعة شبكة الإعلام العراقي قناة “العراقية أو العراقية نينوى”..!
عند احتلال المدينة.. نقلوا كل أوليات الموظفين والعاملين في دوائر الدولة إلى حواسيبهم اعتماداً على ما وجدوه بتلك الدوائر التي هرب كبارها..!
رأيت إشارة أو حركة على شكل (ايماءة) بالرأس من الذي كان يتعامل مع الحاسوب (اللابتوب).. تلقاها كبيرهم الذي رد عليه.. حوّلها إلى الحاج (فلان) أي “الهوية” ليدققها هو الآخر ويتأكد منها بدقّة لأن الصحفيين والإعلاميين كفرة ملحدون ولا يجب التهاون معهم..!
هنا شعرت أن الدنيا تدور بي وأن اسمي لا محالة ظهر عندهم وظننت كما قالوا أنّهم لا يظلمون أحداً ووجدوا الحجّة وهم يريدون قطع الشك باليقين من خلال التدقيق النهائي، ثم أنا إعلامي وصحفي ومعد ومقدّم برامج ومعلّق رياضي شامل وسبق لي الظهور عبر الشاشة لساعات تتجاوز المئات إلى الآلاف.. يعني “مطلوب.. مطلوب” وما من فرار من قدري “المحتوم” الذي اقترب مني كما قرب الرمش من العين..!
راح يسألني من جديد: أين تعمل.. أجبته: أنا رجل متقاعد.. واشرت إلى ساقي الصناعية وقلت له: (مبتورة) من هنا.. وقلت: بالتحديد من قرب الحوض.. قال لي: اقترب..
فعلت ذلك.. مدّ يده ليتأكد من كلامي.. نقر باصبعه على نهاية الساق الصناعية، ثم سألني من جديد.. هل أنت من جماعة جيش (الهالكي) قصد المالكي وأصبت بإحدى عملياتنا..؟
رددت: أنا أصبت بالعام (1987) في الحرب ضد إيران.. قالها: آه يعني دفاعاً عن الطاغوت صدام.. قلت له: العراق.. ردّ: بل الطاغوت وعليك أن تسكت..!
أصابني الخرس وقتها.. أشار لمن كان معي: أن خذه حتى أنادي عليه.. وضعه في الغرفة “المحجر”..!
عرفت أن الشكوك تحوم حولي ولابد من معجزة كي أخرج من عندهم بسلام مع أني أيقنت أن ساعاتي الأخيرة بالحياة دنت من النهاية..!
كانت الغرفة المقصودة في آخر الرواق وقبل أن أدخلها، طالبني الحرس أن لا أخوض بأي حديث ومهما كان مع الذين كانوا هناك وأنّهم أي جماعة “التنظيم” يراقبون كل تحركاتنا وكلامنا..!
لا أعلم هل كان كلامه ذاك بداعي التخويف أم كان نصيحة صادقة وهو من سبق وشاهد سقوطي المريع قبل دقائق.. دخلت و(أقفلوا) الباب خلفي بالترباس الذي صدرت عنه أصوات احتكاك عنيفة..؟!
حل علينا الليل.. كان وقت صلاة المغرب..
أعلمونا “هم” بالصلاة..
كان الجميع وأقصد من في الغرفة متوجّسين من بعضنا.. لا أحد يثق بأحد.. لا كلام ولا همس أو إشارة، حتى وإن جمعتنا سجادات الصلاة لاحقاً..!
لم أكن على وضوء، بل كنت معتاداً أني أصلي فترة وأترك فترة.. أي محسوب على أولئك الذين يقولون.. “ساعة لربك ومثلها لقلبك”.. قلت لمن سألني عن “طهارتي” أنا على وضوء وصليت مع الجمع بلا وضوء..!
أنا والقطّان وجمعة العربي!
فتح باب الغرفة عقب الصلاة.. قدموا لنا (شوربة) عدس مع صمونة واحدة من الحجم الصغير.. كان الإناء عبارة عن (كاسة) بلاستيكية (صلدة) ذكرتني بشبيهةٍ لها حين كنت أجلس للسمر ويأتي بها النادل..!
كم حاولت أن أبعد تفكيري عنها لكني لم أفلح.. بقيت (الكاسة) تحثّ الذاكرة وكأنها رغبت باحداث (فتنة) للايقاع بي عند قومٍ لا يرحمون..!
دوار جديد سيطر على الذاكرة، لتأخذني تلك (الكاسة اللعينة) إلى آخر جلسة تواجدت فيها هناك في العاصمة بغداد قبل العودة إلى الموصل ذلك اليوم المشؤوم (5/ 6/ 2014)..
نعم سرحت..!
كنت في الفندق.. أتاني اتصال هاتفي.. كان من صديقي القديم الذي تعرفت عليه في التسعينيات، يوم تعاملت مع مشروع اليانصيب الرياضي الخاص بمسابقة الدوري الكروي..!
كان الرجل أحد أعمدة المشروع حينها..
هو المدرب العراقي المغترب يونس جاسم القطّان المستقر في النرويج..
بعد السلام ومزيد من التحيات.. قلت له: أين أنت..؟ ردّ: أنا في بغداد وعرفت أنّك هنا أيضاً.. أجبت: نعم.. سألني: هل لديك أي ارتباط اليوم؟
قلت: لا..
ردّ على عجل.. حضّر حالك، سأمر عليك بعد قليل..!
وصل “أبو نور” الذي تلقفني بالأحضان ثم ونحن جالسان في سيارته.. أخرج زجاجة عطرٍ وقال.. خذها إنها لك.. حملتها من هناك (النرويج) والحمد لله رأيتك لأعطيها لك..!
قاد سيارته الحديثة “ذات الدفع الرباعي” بهدوءٍ..
خلال الطريق خضنا بكل أمور الرياضة والسياسة، حتى وصلنا إلى مكانٍ ما.. تبيّنته.. كان نادي الصيادلة..
قالها لي.. أريدك اليوم وحال جلوسنا أن تنسى كل شيء له علاقة بالرياضة وغيرها (صار معلوم) أبو النورس..؟
رددت عليه.. ولكني أعددت حلقة من برنامج بتوقيت اليوم والضيف هو عبد الخالق مسعود رئيس الاتحاد العراقي ولابد أن أتابعه، كي لا أضع مقدم البرنامج الزميل إياد الجوراني بحرج وهو من سبق واعتاد تواجدي قربه حتى وإن كان عبر الهاتف من خلال الرسائل السريعة القصيرة..!
وافق على مضض وهو يتأفف، رغم علمه أن العمل عمل..
دخلنا وجلسنا وبدأت جلسة السمر التي قطعتها بمتابعة الحلقة التي أجاد فيها الجوراني بإمتياز وقتها من خلال شاشة عملاقة نصبت فوق مسرح يرتفع قليلاً عن الأرض..
حال انتهاء الحلقة وردني اتصال من الملا عبد الخالق مسعود.. سألني.. أين أنت.. فقلت له موجود.. عاد وسأل (أكدر أشوفك اليوم باجر) رددت إن شاء الله ملا غداً.. ثم راح الملا يقول لي.. (شفت كاكه “أخي” طلال ما تكدرون عليّ وجاوبت على كل الأسئلة) قلت له نعم رأيتك ونترك الحكم للجمهور المتابع..! ثم توادعنا على أمل اللقاء في اليوم التالي لتناول الفطور سوية في فندق بغداد الدولي قبل سفره إلى الدوحة..!
سحب القطان الهاتف وكاد يقفله.. قبل أن يفعل اتصل بي الجوراني.. سألني.. كيف وجدتني.. رددت عليه.. كنت أسداً والله.. قبل أن يقفل.. طلبت منه أن لا ينسى مراجعة الحسابات وتحصيل أجوري من شبكة الإعلام، كوني سبق وعملت لإياد تخويلاً قانونياً ليمثّلني هناك في الشبكة واستحصال حقوقي المالية ومتابعة الشؤون الإدارية نيابة عني..!
هذه المرّة انفعل الكابتن يونس وأغلق الهاتف بعد سحبه من يدي.. كان الهاتف قديماً (صيني الصنع) وهو جاءني مع شقيقين له كهدية من جعفر العلوجي رئيس تحرير رياضة وشباب بعد عودته من إحدى سفراته الخارجية..
ظهر على المسرح مدنداً بعوده الفنان جمعة العربي الذي أخذ يطربنا ويصعد بنا رويداً.. رويداً نحو الأعالي بصوته الشجي والكلمات التي تنساب منه تارة كنسمة هواء وأخرى كشلال هادرٍ، بل أشعرنا لوهلةٍ أننا نجلس متكئين على الهلال ونطالع من هم في الأرض “نحن الملوك وما دوننا هم الرعية”..!
أغاني طربية عراقية وعربية “مصرية لبنانية سورية خليجية” روائع أم كلثوم وعبدالوهاب.. رأينا وديع الصافي وصباح فخري وفيروز وغيرهم من المطربين ذوي العيار الثقيل، حتى وجدت أبي نور القطان ينهض من مكانه ويتجه إلى الفنان جمعة العربي ويطلب منه تأدية بعض الأغاني الموصلية كتحيّة لي أنا القادم من شمال العراق..
أقل من دقيقة وإذا بالعربي جمعة يعلن عبر المايكرفون من خلال كلمات ارتجلها..
تكريماً للضيف فلان الفلاني وهو من الموصل الحدباء “أم الربيعين” الحبيبة سأؤدي (زنجيلاً من الأغاني الموصلية) لحظتها انتبه الجميع وصحوا من “سكرتهم” وراحت نظراتهم تتجه نحوي والقطان.. ثم جاء التصفيق الحار من الجميع الذين أشعروني أن كل ما نراه من الذين زرعوا الفرقة بيننا نحن أبناء البلد الواحد ليس إلا أمور تم اصطناعها لإيذاء الجميع بتنوّع فسيفسائهم..
فتحت هاتفي ورحت أسجل ما يغنيه العربي من طقطوقة “سعاد إلى صاح القطار وعفاكي” وغيرها حتى كانت الخاتمة بالأثيرة (يردلي كم يردلي سمره قتلتيني)..!
أثناء الغناء وردني اتصال من زوجتي، فقلت لها يمنع استخدام الهاتف الآن..! ضحكت وتركتني رغم انقطاع التسجيل الذي كنت أقوم به.. وما أن بدأ جمعة يغني لأم كلثوم ليرن هاتف القطان هذه المرّة وكانت (وزيرة داخلية بيته)..
قلت له (لازم أهلنا يشعرون بنا الآن) أقفلنا الهواتف وواصلنا التنعّم بأجمل جلسة طربية عشتها في حياتي نسيت معها الوقت والمواعيد.. كنت محلقاً في عالم لا يمت للأرض بصلةٍ..
أفقت من هذه الذكريات على صوت أحدهم وهو يقول.. صلاة العشاء.. صلاة العشاء.. نظرت إلى طعامي كان كما تركته.. ثم رحت في ذكريات أخرى عبر أحلام اليقظة التي تخللتها كوابيس من بينها لحظات تنفيذ حكم الإعدام بي على أيدي سيّافيهم..!
حلّ الفجر وأداء الصلاة، تبعه الصباح.. قدموا لنا الفطور (قطعتان من الجبن مثلثات) وصمونة واحدة.. تركتهم خلفي مع طعام العشاء الذي لم أقربه هو الآخر..!
الخلاص بسبب الجوراني إياد
تم استقدامي من جديد لأقف أمام ذات الشخص.. نظر إليّ وتفحصني من رأسي حتى أسفل قدمي.. ثم قال.. (ليش تنكر أنت إعلامي وصحفي.. ترى احنه كلشي نعرف.. قلت له نعم كنت أكتب بالرياضة سابقاً.. وبعد بكيفكم شتريدون بكيفكم.. حمل هويتي بيده وتفحّصها من جديد.. وقال.. عندك اثبات آخر.. أخرجت له هوية التقاعد وكذلك بطاقة الكي كارد.. طابق الأسماء.. هنيئة لا أكثر.. قال (متقاعد).. أعطاني مستمسكاتي وراح يردد.. لم يظهر اسمك عندنا وليس عندك توبة مثبّتة في الحواسيب ولكن مع ذلك سنبقيك تحت عيوننا.. خذ أوراقك وغادر.. حتى تعلم وتتأكد نحن لا نظلم أحداً..!!
خرجت من هناك بلا صحبةٍ من أحد.. رأيت مجموعة من ألـ(شبان) بمقتبل العمر.. عرفت أنّهم تم التلاعب بأفكارهم ليكونوا الحطب لقادم الأيام والمعارك..!
وأنا أسير من حيث أتيت رحت أترحم على أهل زميلي الإعلامي إياد خلف الجوراني الذي أنقذني بحركته تلك حين طلب مني أن يصبح وكيلي في بغداد.. وهذا ساهم برفع اسمي من كتب العراقية نينوى بعد أن سبق وتم إنهاء عقدي مع الشبكة لكوني (متقاعد) ويحق لي العمل فقط بالقطعة (أجور)..
وأتذكر يوم سلمني مدير الإدارة في العراقية نينوى “أبو ضياء” اضبارتي ومستمسكاتي الخاصة ليختفي أي أثر لي هناك، رغم أن صديقي يعرب السالم مدير المحطة ذلك الوقت ومن سبقوه لم يبخل أحد منهم (عليّ) بتزويدي بأي كتاب لتسهيل مهمة عملي..
تنفست الصعداء والهواء العليل.. مشيت وعقلي غير مستقر وتفكيري مشلول وتوقف عند الذي حصل.. لم أهضمه بعد.. رأيت البعض ممن أعرفهم يقفون في باب مديرية الشباب التي سبق وعلمنا أنّ الكثير من أثاثها سرق ونهب وتعلمون الإشاعات كثيرة عن السارقين رغم صحّة قسم كبير منها، تحاشيت من رأيتهم خوفاً أن أجد واشياً جديداً بينهم.. كنت خائفاً جداً وزاد خوفي حين لمحت موظفاً بالمديرية كنت أعرفه ويعرفني يخرج من بوابتها، وضعت كف يدي على نصف وجهي فيما كانت يدي الأخرى تمسك بعكازي الذي يعينني على المشي وضبط إيقاع حركتي..
اجتزت الشارع العام بسرعة لم أعتد على مثلها ومن بعده سلكت درباً بعيداً نسبياً عن الأنظار.. فدخلت من أحد الأفرعٍ لأخرج من آخر يقابل الذي تركت فيه سيارتي الحبيبة..
صعدت فيها والألم يشتد على ساقي المبتورة التي لم أشعر بها حينها أو بالجرح الذي نتج عن سقوطي هناك وأنا أردد.. هذه آخر أيامي معك أيتها الساق اللعينة.. أدرت المحرك وانطلقت بالسيارة بسرعة جنونية أول الأمر ثم قلت لنفسي.. ما هذا الجنون.. لم أمت عندهم وها أنا أبحث عن الموت بتهوري بالسواقة..!
وصلت البيت وأخفيت كل شيء عن الأهل باستثناء زوجتي التي وبغقلةٍ مني وخوفاً على راعي بيتها، حكت لهم ما حدث ومن يومها باتت أي طرقاتٍ على باب داري ومهما كانت.. تتسبب بسقوط ابنتي الكبيرة مغشياً عليها أو (تتجمد) في مكانها وإلى اليوم تعاني ذلك الخوف من كون “الدواعش”، يمكن لهم أخذ والدها والتمثيل به بعد قتله..!
كما أني بدأت رحلة استمرت معي لسنوات وكانت عبارة عن كوابيس تتكرر فصولها لاحقتني إلى يومي هذا وتتمثّل باعتقالي ومحاكمتي ومن ثم تنفيذ اعدامي نحراً.. كنت أعيش الموت بين يوم وآخر بذات الكوابيس التي أجد فيها أفراد التنظيم وحال تنفيذ الحكم فيّ يهللون بالتكبير وكأنهم حققوا انتصاراً بنحرهم أحد (الكفار)..!
بدأت أحسب لكل خطوة ألف حساب.. رأيتهم بنفسي.. كانوا يعلمون أدق التفاصيل سواء من الذي قاموا بجمعه أو تم تزويدهم به من خلال المتطوعين لتقديم المعلومات لهم للتقرّب منهم أو العمل معهم..!
طائرتان عسكريتان (هليكوبتر) في السماء!
يتذكر أبناء الموصل عقب احتلال المدينة بفترة، سماعهم وسماعنا صوت طائرات (هليكوبتر) كانت تجوب في سماء المدينة.. يومها قلنا أن الجيش العراقي النظامي بدأ فعلياً التحرك نحونا لتحريرنا..!
فرح من فرح وحزن ألـ(موالين) للمحتلين.. حتى كانت تكبيرات وأحاديث تصدر من بعض الجوامع، يعلنون.. أن من هم في الطائرات ليسوا سوى الجماعة (ولدنا) يجرّبون الطائرات التي (غنموها) من مقر قيادة عمليات نينوى..
هنا كانت الدهشة واضحة علينا.. وقلنا.. أصبحوا يمتلكون (طائرات)..
ترى لما لم تدمّر أو تفجّر عن طريق من انسحبوا يومها أو.. أين منها الطائرات المقاتلة التي كانت تجوب السماء ولماذا لم تقم بقصفهما.. ؟! وبقي السؤال من دون جواب..!
-يتبع-
إقرأ في الأجزاء القادمة..
الأصدقاء الحق يظهرون بالشدائد..
هدموه.. مرقد النبي يونس والموصل من أقصاها إلى أقصاها تبكي دماً وحسرة
سعدون ناصر يواسيني ودموعه تنساب عبر الهاتف الجديد الذي وصلني من قطر
سمير الشكرجي يجازف بتحويل مبلغ أعيد له أو لم يعد له لاحقاً ويطالبني بترك العراق واللجوء له أو أوروبا
مراقد الأنبياء والأولياء تستباح وتفجّر ورفع الصلبان من فوق أسطح الكنائس!
كل ما تشتهيه الأنفس من مأكل وملبس وأجهزة مختلفة كنّا نراه في أسواق الموصل..!
فرض الخمار وتقصير الثياب وإطالة اللحى باتت فرضاً ومن يخالف يتم تعزيره (جلده)!
حتى وإن سبق وأديت صلاة الفرض في دارك الذي خرجت منه.. تجبر بأدائها في المسجد مرّة أخرى بداعي أنّك لم تصلّ!
أنا والصالحي وخطة ترك الأهل والعراق التي دفعتني أسرتي لخوضها خوفاً عليّ!
تنويه:
يرجى عدم الإقتباس.. كل الحقوق محفوظة للكاتب المؤلف..!