مقالات

هل نحن إزاء نظام عالمي جديد، بعد جائحة كورونا؟

كرار حسن المالكي
يتحدث الكثير من الكتاب والمتابعين والمهتمين بالشؤون السياسية والاقتصادية، والمختصين في العلاقات الدولية وغيرهم، هذه الأيام عن ترقبهم نشوء مرحلة جديدة في العلاقات الدولية، (ما بعد فايروس كورونا)، ربما تُفضي إلى اقامة نظام عالمي جديد ومختلف، على قاعدة “ما بعد كورونا ليس كما قبلها”. ويتنبأ معظم هؤلاء عن استحداث قواعد جديدة حاكمة لهذه المرحلة العتيدة، ربما تكون أكثر عدالة وانصافا من تلك الموضوعة حاليا، والتي أنشأت في حقبة الحرب الباردة وما بعدها. يسترشدون في ذلك بمعطيات وشواهد او حوادث تاريخية محددة، قد تكون مشابهة للحالة التي نعيشها اليوم في ضل وباء كورونا المستجد، كمرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى ١٩١٤- ١٩١٧ التي شهدت اقامة (عصبة الامم) ــ هي نوع من التنظيم الدولي لم يسبق ان شهد العالم مثله، قائم على “التعددية القطبية” او ما يسمى بنظام “الامن الجماعي” ــ . او مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي اسفرت عن نشوء (منظمة الامم المتحدة) و (مجلس الأمن)، الذي أرسى دعائم (نظام عالمي World order) قائم على “الثنائية القطبية” متمثلة بالرأسمالية الغربية وعلى رأسها (الولايات المتحدة الأمريكية)، والاشتراكية الشرقية بزعامة (الاتحاد السوفيتي السابق). او عن عالم ما بعد الحرب الباردة الذي تمخض عنه (النظام الدولي الجديد، New world system) “احادي القطبية” بزعامة الولايات المتحدة. لكن هذه الحالات او الشواهد التاريخية لم تسفر بالضرورة عن حالة سلام عالمي، او عدالة دولية ورفاه اقتصادي وبالتالي عن سعادة بشرية!، فعصبة الامن مثلا، لم تمنع ظهور الانفلونزا (الوبائية الاسبانية) التي اودت بحياة ملايين البشر عام ١٩١٨، ولم تقف حائلا دون تفاقم “الركود الاقتصادي” العالمي او ما سُميَّ بـ “الكساد العظيم” عام ١٩٢٩، ولم تضع حدا للحروب والصراعات، بل نشبت في تلك الحقبة اشنع الحروب واكثرها تدميرا ودموية في التاريخ على الاطلاق، هي الحرب العالمية الثانية ١٩٣٩- ١٩٤٥ التي اشعلتها النازية الالمانية، والتحقت بها الفاشية الايطالية، انتقاما للذل الذي لحق بالألمان، عقب هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى. كانت هذه ـ الحرب العالمية الثانية ـ ميدانا تجريبيا لصنوف الاسلحة المدمرة والفتاكة، اختتمتها الولايات المتحدة الامريكية بـ “القنبلتين النوويتين” في “هيروشيما وناكازاكي” اليابانيتين. وكذلك نظام “الامم المتحدة” الذي شيده المنتصرون في تلك الحرب ــ الامريكان والسوفيات ـ ، صحيح انه كان شكلا متقدما من التنظيم الدولي، و بالطبع فاق نظام عصبة الامم شكلا ومضمونا، ولكنه أيضا لم يكن كافيا لوضع حد للحروب والنزاعات، بل شُلت هذه المنظمة ـ منظمة الامم المتحدة ـ عن اداء دورها الى حد بعيد، وانقسم العالم بين القطبين المتناحرين، واشتعلت الحروب، وحروب الوكالة (broxy wars) ، وهي حروب ساخنة على امتداد صفحات حقبة “الحرب الباردة”، ابتداءً من الحرب الكورية، ومرورا بحرب فيتنام، ولم تنتهي بحربّي الخليج الاولى والثانية، فضلا عن تقسيم الدول، وقيام دول اخرى او “فرضها” على اراضي دول اخرى مثل “اسرائيل” التي فرضت على ارض “فلسطين”. وكذلك هو الحال لعالم ما بعد الحرب الباردة، الذي تربعت فيه الولايات المتحدة على عرشه وما تزال، اذ شهد هذا العصر ظهور الجيل الجديد من الصراعات والحروب، لا تشبه سابقاتها، لا من حيث الميادين، ولا الاطراف ولا حتى بنوع السلاح. يطلق عليها البعض تسمية “الحروب الهجينة” واخرون يسمونها بـ “الحروب اللامتماثلة” وغيرها من التسميات، لا تجمعها سوى أساليب القتل والتدمير. كما شهدت هذه المرحلة صعود (الفاعلون من غير الدول، Non-state actors) وهي خليط من الحركات والمنظمات وحتى الشركات عبر وطنية، والمتعددة الجنسيات ، التي اصبح لها تأثيرا دوليا ملحوظا، بعد ان كان هذا التأثير حكرا على الدول، وفق التنظيرات المختلفة في حقل العلاقات الدولية، وخاصة المقترب الواقعي منها. الان وبعد ازمة فايروس Coronavirus COVID19# ، التي رافقتها كتابات وتحليلات مختلفة تبحث في اسباب تفشي هذا الفايروس القاتل. معظمها يدور اما حول نظرية المؤامرة والدور الامريكي او الصيني بانتشار الفايروس من جهة، او حول نظرية الغضب الالهي او غضب الطبيعة من جهة اخرى، وثمة من يدمج الاثنين معا بطبيعة الحال. بيد ان اياً من اولئك الذين يبشروننا بولادة هذا النظام العالمي المستجد بعد فايروس كورونا المستجد، لم يؤشر على ملامح او سِمات هذا النظام، ولم يبينوا لنا القواعد الحاكمة ولا القيّم الجديدة التي سيعتمدها العالم الجديد. نعم يكاد يتفق معظم المتنبئين بالحقبة الجديدة، على ان الزعامة فيه ستكون قريبة من الصين واصدقائها، بعيدة عن الولايات المتحدة وحلفائها، باعتبار ان الاخيرة بدأت تفقد سيطرتها وترتخي قبضتها شيئا فشيئا عن النظام الذي اقامته هي نفسها قبل ما يقرب من 30 سنة، ولم يعد باستطاعتها الامساك بخيوط اللعبة الدولية، فضلا عن عدم قدرتها الاستجابة الكافية لهذا لتحدي الجائحة المميت، بعد ان كانت حتى وقت قريب هي المتهمة بتصنيعه ونشره! . من المسلَّم به ان الاحجام والاوزان الدولية ترتكز وتُصنف وفقا لمقاييس تقليدية لازالت معتبرة واساسية مثل المساحة، السكان، الموارد الطبيعية، الاطلالة البحرية وغيرها، او تصنف على اساس القوى الاقتصادية والعسكرية والسياسية والثقافية و/او تصنيفات فرعية اخرى. ولكن حتى هذه التصنيفات تخضع لتصنيفات معيارية اخرى، فالقوى الاقتصادية الدولية مثلا، تصنف على اساس الدخل القومي تارة، وعلى اساس القاعدة الصناعية تارة اخرى، وهكذا، فالدول التي تعتمد على موارد اقتصادية محدودة، كالدول النفطية، مهما بلغ حجم دخلها القومي لا توضع على مقياس واحد مع الدول الصناعية، وهكذا. ومن هنا نتسائل: هل نحن ازاء تغيير جيوبوليتيكي معتبر، عقب الانتهاء من ازمة كورونا؟ وهل ستتغير حجوم الدول ومساحاتها وحجم سكانها الى الحد الذي يُفقدها جزئاً معتبرا من قدراتها وتأثيرها؟ وهل ستفقد الدول الصناعية قاعدتها وبنيتها الصناعية، من علماء وصناعيين ومصانع وخبرات و…الخ؟ وهل ستفقد الدول النفطية ابارها وثرواتها؟، ام انها ستفتقد لأسواقها؟، وهل يمكن ان تنشأ حياة صناعية من غير شريانها النفطي؟، ام اننا سنشهد تغيرات في الانماط الثقافية والقيمية للشعوب والمجتمعات؟ وهل يستغني الناس عن الانظمة الديمقراطية لصالح الشمولية؟ وعن الليبرالية والرأسمالية بأنواعها، لصالح الاشتراكية بأشكالها؟ ام العكس هو الصحيح؟ وهل سيعود الملحدون واللادينيون الى دياناتهم، ام ستتصاعد موجة التشكيك بالدين والخالق العظيم؟ ربما نجد اجابة مجدية على معظم هذه التساؤلات في المدى المنظور او القريب حتى، غير انها عموما تحفز الأذهان للتفكير مليا والتامل بالديناميكيات الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية وغيرها، قبل الاستعجال والاسفاف بالتكهنات وإطلاق الاحكام النهائية. انما يمكن، بل ومرجّح ان نشهد تغيراً ملحوظاً على المستوى الداخلي لهذه الدولة او تلك، كتغيّر الحكومات او حتى تغيّر الانظمة السياسية، وهذا ربما يتعلق بمدى نجاح او فشل هذه الأنظمة والحكومات بالاستجابة لتحدي كورونا، فالإدارة الامريكية مثلا يبدو انها تواجه متاعب جمة، وتعاني من وهن حقيقي في هذا الإطار، ومن المتوقع ان يخسر الرئيس ترمب الانتخابات الرئاسية المقبلة اذا ما بقي الحال على ما هو عليه اليوم لأمد طويل، وكان هذا يبدو خلاف التوقعات حتى وقت قريب. وهذا يسري على بقية الدول التي شهدت انتشارا غير عاديا للوباء، كإيطاليا واسبانيا وإيران، وانضمت الان فرنسا وبريطانيا لنادي الدول المبتلية بوباء كورونا. اما الصين ــ مصدر الوباء ــ فمن غير المتوقع ان تشهد تغييرا داخليا قريبا، سواء على مستوى الحكومة او النظام، لأنها ببساطة دولة الحزب الواحد الذي لا يُخطئ ابداً. اما على المستوى الدولي، فمن المتوقع وهذا ما بدت مؤشراته مبكرا، ان نشهد صراعا سياسيا إعلاميا مبكرا بعد السيطرة على الوباء ان شاء الله تعالى، اذ تحدثت وسائل إعلامية غربية عن “تقارير استخبارية” احدها قدمته وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية (CIA) للبيت الابيض، يتهم الصين بالسعي جاهدة لاخفاء معلومات ضرورية عن سرعة انتشار الفايروس وسعته وخطورته، وهو ما جعل الفايروس وباءً عالميا!، كما اتهمت الادارة الامريكية، الجمهورية الاسلامية الايرانية بنحو من ذلك الاتهام في وقت سابق على لسان وزير خارجيتها “مايك بومبيو”، تجدر الإشارة الى ان الرئيس الأمريكي ترمب كان قد سمى كورونا بـ “الفايروس الصيني”! وبناء على ذلك قد حملت إعلامية، ترافقها دعوات متسارعة من منظمات دولية لحظر انواع معينة من المنتجات الحيوانية والصناعية، واشتراطات دولية لاضفاء مزيد من الشفافية على انشطة وممارسات الدول والشركات في المجالات الصناعية والتجارية المختلفة، لمنع حدوث كارثة اخرى من نوع coronavirus. وسنرى نشاطا متزايدا للمنظمات الدولية، كمنظمة الصحة العالمية، وربما سنشهد كذلك مزيدا من التدخل في الاقتصادي للدول لحماية امنها القومي، وتراجع في اقتصاد السوق الحرة الدولية، والاشتراطات التجارية والصناعية والاقتصاد الليبرالي عموما، وانتهاء مقولة ( دعه يعمل دعه يمر). فمن صاحب الصوت الأعلى في ذلك كله ياترى؟

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى