مقالات

لم أبحث في الروايات .. لأنني الرواية

 

بقلم: رَوايا خليل آل ربيعة

باحثة عراقية في الفنون والآداب والفلسفة
الكويت

لماذا يميل الغالبية إلى قراءة الروايات والقصص أكثر من قراءة الكتب التي تسافر إلى طوائف أخرى من تلك العلوم؟
سؤال لطالما تبادر إلى ذهني وأنا أشاهد خلو أقسام المعرفة من الناس ما عدا تلك التي تزدحم بالمؤلفات الروائية ، سواء في المكتبات أو في المعرض الدولي للكتاب ، فخضت في مناقشة عقلية بوجهات النظر المختلفة التي تقاربت إلى بضع إجابات ، ووجدت أنه من المهم مشاركتها مع القراء.
حياتنا عبارة عن قصة تقوم باستعراض حبكتها في أذهاننا من خلال الشخصيات الأساسية التي وجدناها تتشارك معنا في ذات القصة وذات الحبكة ، بل وتتشارك معنا أيضا في المنعطفات الثانوية والخطوط التي قد لا تؤثر كثيرا في المسار الأساسي للقصة ، فلكل منّا تلك السيرة الذاتية التي صنعت قصته الخاصة والتي تكون لها أولوية من نوع ما غير معروف المعالم ، يدفعنا بقوة نحو ملامسة قصصنا ليجعلها أكثر قربا بالفهم والإدراك والوعي بمجرياتها ، فنفتش بين سطورها عن سر ما هنا ولغز ما هناك ، لعلّنا نفهم من نحن ، أو لعلّنا نجد تلك الذات التي اختفت بين طيات الحياة وغابت عن المشهد العام للقصة.
في بداية مشواري مع قراءة الروايات – وقبل انتقالي لقراءة الكتب الأخرى بمختلف تصنيفاتها ومجالاتها – قرأت فقط ما لا يصل إلى عشرة من أشهر الروايات العربية والعالمية ، معتقدة بأنني سأجد ضالتي بين سطورها وبين اضاءات كلماتها ، لأنه في ذلك الوقت وما زال أيضا.. الكثير من قراء الروايات يبحثون في القصص عن ذاتهم المفقودة ليصنعوا منها شيئاً ما.. قد ينجح وقد لا ينجح ، فظننت حينها أن تلك الذات المفقودة قد نتمكن من استعادة أجزائها وملء فراغاتها تراكميا من خلال تجلي مكاشفة وجدانية في كل معلومة أو كل سطر نقرؤه في إحدى رواياتنا المفضلة.
ولكنني استيقظت من هذه الفكرة سريعا وانغمست بين ثنايا الكتب التي تبدو للبعض معقدة وسردية أو جامدة ولا يرغبها الذوق العام ، حتى أصبح إيماني بالروايات ضعيف جدا واعتقادي بحاجتي لقرائتها ليس ضروريا إلا بغرض لغوي أو بلاغي ، أو بغرض تعلم كيفية التلميح لا التصريح وتعلم تبسيط الفكرة ، بالإضافة إلى سرعة الاقناع.. باستخدام التنويع في جنس الكتابة الذي يستوعبه الناس ، ولا أنكر أن هذا ما يجعل الرواية تتصدر المشهد دائما.
لكن في المقابل ، وجدت أن أغلب من هم في محيطي الاجتماعي المهووس بالروايات ما زالوا يعانون ذلك التيه في أرواحهم ، على الرغم من مرور سنوات من الاكتفاء بقراءة المزيد والمزيد من مؤلفات الروائيين بمختلف المستويات الأدبية ، حتى أنهم ما زالت شخصياتهم متعطشة لتكوين رؤية تسعف هذا التيه ، ومازالت كما هي لم تتطور كثيرا ولم تصنع ذلك الفرق في مستوى النضوج ، ولم تصل حتى إلى المرحلة المطلوبة من الرضا عن الذات ، فأين ترسبت تلك القراءات التي من المفترض أنه استقر شيء ما من حصاتها بداخلهم؟!
أما من لوحظ عليهم التغيير حقا ، وجدتهم ممن توجهوا لقراءة تخصصات أخرى من الكتب ، خصوصا من تصفح أوراق المدارس الفلسفية مثلا ، فهي تحاكي فكر العالم وتخاطب وعي الإنسان وعلاقته بعالمه الداخلي والخارجي بلغة تحاور مساءلاته الإنسانية الابتدائية والعميقة ، فتنطقه أجوبة البحث عن الذات ، ولكن ربما أحد أسباب هروب الناس منها هو رغبتهم بإيجاد الأجوبة السريعة والجاهزة ، وتجنب عناء البحث عن أجوبة لأسئلة لا نهائية ، رغم أن لذة عملية البحث بحد ذاتها تضفي متعة حقيقية في الأعماق تحقق من جانبها قدرا من الاستقرار والهدوء الداخلي.
وبالتالي ، وبعد ملاحظتي لمن حولي وعودتي مؤخرا لقراءة الروايات.. أدركت بل وتأكدت أنه قد تساهم تلك الروايات في دعم البحث عن الذات إلى حد ما ، ولكن لن تساهم في تشكيل الذات على ما يجب أن تكون عليه حقا حتى لو قرأنا مئات الروايات ، قد تقوم بتوجيهها أحيانا ولكن لن تصنعها كما يعتقد البعض ، وهذه هي النقطة الفاصلة في فهم القراءة ، أو في فهم الحياة التي تحددها الرؤية الشخصية الخاصة بالمرء ، دون تأثير السرد الروائي المليء بحالات الاختلالات النفسية ، والبرمجات أو المعتقدات المكتوبة من قبل الآخرين بتعبيرات مجازية تجمل الخلل بزينة الاقتباسات ، والتي غالبا ما تستوحى من خلل في العاطفة أكثر منه في العقل والمنطق المبني على حقائق تقدم اتجاهات فكرية واقعية ، وهذا على سبيل المثال لا التعميم.
فالانغماس في قراءة الروايات يمنعنا أحيانا من الاستفادة من بعض الدروس وحكمتها التي قد نستلهمها من كتب أخرى تسهم في تحويل الخلاصة إلى طريقة ومنهج يتوجب اتباعه ليتم تحقيق أهدافنا من الحياة ويتم تفادي الأخطاء ، فقد يتباين هذا المنهج مع منهج شخص آخر بكامل تجربته الشخصية المختلفة التي صنعت روايته هو أيضا ، والتي قد لا تخدم واقعنا الشخصي ولا تتوافق مع منهجيتنا التي نحن بحاجة إلى رسم وتوضيح خطوطها.
إذن ، المقارنة وفهم التباين هو المغزى من قراءة الروايات وليس اعتناق ما ورد فيها ، أي أن قراءة رواية معينة لا يعني الدخول في تفاصيلها بالطريقة التي يصبح فيها القارئ أحد أبطالها ، فلا هو قادر على الخروج منها ولا حتى العودة إلى الواقع ، وهنا تتجسد مشكلة حقيقية يعاني منها العديد من القراء ، وبدلاً من إيجاد أنفسهم من خلال قراءتهم لبعض الروايات.. تجدهم مع مرور الوقت يصلون إلى نهاية طريق مسدود ومعبّد بالخيبة والإنكسار والضياع دون شعور أو وعي ، والسبب يعود لاعتناق مقولة خالية من الفلسفة الذاتية للشخص أو خالية من القدرة على نقدها ونقضها ، فيتجذر في أعماقه معتقد لشخص آخر يبدو مقنعا للغاية ولكنه في الحقيقة ليس مناسبا للغاية بل قد يلحق الأضرار بمن يتأثر به.
لذا من المهم أن نسأل أنفسنا؛ هل من الضروري إلى هذه الدرجة قراءة الروايات للاقتراب من الذات؟
وهل قراءة تلك القصص تثري معلوماتنا التي تتناسب حقا مع حاجتنا لاجتياز صحيح في مراحل الحياة؟
أحيانا نعم بشرط حضور المراقبة الذاتية ولكن ليس دائما ، فتلك القصص رغم أنها ليست بالقصة الأساسية – أي أنها ليست بتجربة أولى بل هي تجربة ثانوية بحتة بالنسبة لنا ولا تقترب حتى من أساسيات قصتنا الخاصة – إلا أنها مهمة لتدعم بتفاصيلها حبكاتنا الاستثنائية التي قد تسهم بطريقة ما أو بأخرى في كتابة رواياتنا بتفنن ، وبكيفية تناسب مسارات حياتنا ، فتتراكم تلك القصص بحبكاتها وشخصياتها ومعانيها لتشكل خبرة تراتبية تتيح للإنسان استقراء حبكته الخاصة وتتيح توقع وجهته التي سيتخذها لاحقا من خلال مراقبة السرد المقروء بالمقارنة وفهم التباين.
فهل يوجد طريق في زحمة تلك التساؤلات قادر على هدايتنا إلى المكان الصحيح؟
نعم! الطريق واضح ، ولكن يحتاج إلى القليل من الدقة للوصول إلى بدايته التي تخفيها عنا حياتنا الخاصة.
ذلك الطريق الذي أتحدث عنه كان مجرد بداية أخذتني من بين الكتب التي بدأت بقراءتها ورمتني في مغامرة شيقة للبحث عني وعن قصتي الخاصة ، حتى وجدت ضالتي في مغزى القراءة بمختلف المجالات ، لا في تلك السطور التي قرأتها فقط في الروايات ، رغم أن تلك السطور شكلت خبرة تراكمية ليست بالقليلة ، ووسّعت لي الآفاق لفهم المزيد ، بل ومهدت لي الطريق للوصول إلى بعض الأجزاء من قصتي وفهمها بشكل جيد ، ولكن قراءتي للكتب المنبوذة أو التي هجرها أغلب الناس لأي سبب كان ، هي في الحقيقة من صنع لحياتي أكثر من رواية خاصة تتخطى تلك الحبكات المتشابهة مع قصص الآخرين والمكررة باستمرار وكأنها عدوى عقلية تنتقل للواحد تلو الآخر.
تلك الحبكات التي ترجمت إلى عبارات مجازية او اقتباسات ، عادة يعتنقها أشخاص بوعيهم المتواضع الذي يجردها من استخدامها المطلوب عند اللزوم لترتدي عقولهم وقلوبهم ، فيمارسون تخبطاتهم ما بين قرار أو خيال أو معتقد كتبه شخص آخر ، وقد يكون سبب ذلك هو انبهارهم بمكانة الروائيين والكتاب ، فلا هم يعيشون قصص الآخرين المنفصلة عنهم بشكل كامل حيث أنها لا تمثل واقعهم ، ولا هم يعيشون حتى قصتهم الخاصة بشكل كامل والسبب استغراقهم في قصص أخرى.
إن خلاصة تجربتي تتمحور حول البحث عن الطريق الصحيح القادر على دعم خبراتنا المتراكمة في سبيل الفهم والتعايش السليم مع قصصنا الخاصة ، والتي تشكلت مع كل انعطاف مررنا به قادنا إلى طريق مغلق الأبواب أو إلى طريق مفتح الأبواب.
لذلك ، يمكنني القول أيها القاريء العزيز أن كلا الطريقين يعتبر خطوة هامة لفك شيفرة قصتك الأساسية والكشف عن تفاصيلها وصولا إلى الخاتمة التي تتمناها ، والنهاية السعيدة التي ترجوها وتكتبها بفردانيتك ، ولكن الأهم هو أن تكون واعيا بالأولوية التي تكمن في قراءة قصتك أنت واعتناق أفكارك أنت لكونها تجربتك الأولى ، ثم تنتقل بعد ذلك إلى قصص الغير التي تعتبر تجربتك الثانية ، فابحث عن ذاتك ولكن جرب.. أن لا تبحث في الروايات لأنك الرواية.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى