مقالات

البناء اللّغوي في شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك

من المعرفة الأفقيّة إلى اللّغة الكيفيّة

الدكتور /سرمد عادل

     تحتل اللّغة من دون أيّ مجادلة منزلة استثنائيّة، مما مكّنها أن تدّعي وبجدارة صفة العلم، لأنها توصلت إلى صياغة منهج علمي نقل الظاهرة اللّسانيّة ـــــ ذهنيّة كانت أم أدائيّة ـــــ من دائرة المساءلات الماورائيّة إلى دائرة المساءلات المعرفيّة الصارمة، فكان لهذا النقل عائد نظريّ، وفائض تطبيقيّ، وليس ما نقوله بَدعًا، ولا هو من طفرات الذات الحالمة، وإنما هو تصوّر أدركته العقول حين طفقت تبحث عن سمات التفكير اللّغويّ في مدونات اللّغة المتخصصة. 

     وتخلّقت هذه الورقة الموجزة ـــــ وهي في الأصل نتاج مباحثة مع تلاميذي عن سمات التفكير العلميّ لدى قاضي القضاة بهاء الدين بن عقيل الهمداني (ت769هـــ) في شرحه لأبيات أبي عبد الله جمال الدين بن مالك (ت672هـــ) والمتعلقة بلا التي للنفي الجنس ـــــ لتتجاوز الأطر التقليدية، وتطرح تساؤلا في غاية الأهمية عن اللّغة والمعرفة العلميّة في أثناء الكشف عن عمل (لا) وكيف تتشكّل في تركيب فصيح مع اسمها وخبرها.

     وهكذا بدا لنا أن العلم في المجال اللغويّ في هذا المتن سار أفقيًا ولم يكن بناءً تراكميًّا عموديًّا، بمعنى أن البحث في الظاهرة اللّسانيّة لم يكن يبدأ من حيث انتهت الآراء والمذاهب السابقة، ويتخذ لنفسه بداية جديدة، وإنما وجد في الآراء السابقة أهمية في إقامة آراءه، وكأن ابن عقيل في شرحه لم يرد ترك طوابق البناء النحويّ الدنيا لينتقل إلى طابق أعلى، بل بقي مقيما فيها مهما ظهرت له من طوابق جديدة، وقد تُسَوَّغُ تلك الإقامة في الطوابق نفسها بأن الآراء القديمة تبقى موضوعا ملازما للدراسة والبحث في مجال العلوم الإنسانيّة، بخلاف العلوم الطبيعية الذي تحلّ فيه النظريّة الجديدة محل النظرية القديمة. 

     وإلى مثل هذا يقرر ابن عقيل الاتكاء على مذهب سيبويه (ت180هـــ) في الكشف عن وجه الرفع للاسم النكرة المعطوف في حال تكرار (لا) النافية للجنس، ويأتي هذا الاسم النكرة المرفوع في تراكيب فصيحة منها: (( لا حولَ ولا قوةٌ إلا بالله )). يقول: (( الرفع، وفيه ثلاثة أوجه، الأوّل: أن يكون معطوفا على محل (لا) واسمها، لأنهما في موضع رفع بالابتداء عند سيبويه )). ومن انعكاسات تلك الإقامة في الطوابق الدنيا ما طفح به في أثناء شرحه لقول المصنّف: وبعد ذاك الخبر اذكر رافعه. يقول: (( وذهب الأخفش إلى أن الخبر مرفوع بـ (لا) فتكون (لا) عاملة في الجزأين )) وإلى هذا الرأي ذهب المصنّف وجماعة.

      وإذا جاز لنا لمثل هذه المقاربة إصدار أحكام قيّمة إزاء التصوّر السالف ذكره، أمكن القول: إن الاعتماد على المعرفة الأفقيّة في تفسير ظواهر اللّغة لا يعدّ نقصًا، لا على العكس، لأن المدقق والناظر في المتون المتخصصة يجد السير الأفقي قد أفاد توصيفات دقيقة، وقوة شارحة، وقدرة تفسيرية، وطاقة تنبؤيّة، منصبّة على اللّغة وتراكيبها.

      ومما يندرج ضمن البناء اللّغوي في شرح ابن عقيل سمة التنظيم، فلا يكون النشاط اللّغويّ علما بالمعنى الصحيح إلا إذا كان متسما بالتنظيم، أي إنه لا يترك الظاهرة تسير حرّة طليقة من دون أن ينظّمها عن وعي وعلى وفق طريقة محددة. وأفرز السعي في الكشف عن سمة التنظيم عند ابن عقيل، أنه اعتمد في عرض التركيب الذي أنتجه الاستعمال الفصيح لـ (لا) التي لنفي الجنس، على ثلاث نواح، يمكن بيانها على النحو الآتي: 

الناحية الأولى، وفيها بدأ الشارح في متنه يلحظ، وينتقي جملة من التراكيب التي تخص هذا الباب، وجعل منها عيّنات تهم الباحث في ميدان عمله، وكأننا في هذه الناحية أمام عملية انتقاء، واختيار، وعزل للظواهر، وجاءت التراكيب العيّنة على قسمين:

 أحدهما، مصنوع كــ (( لا رجلَ قائمٌ ))، و (( لا غلامَ رجلٍ حاضرٌ ))، و (( لا طالعا جبلا ))، و (( لا مسلماتَ لكَ ))، و (( لا مسلمَيْنِ لك، ولا مسلمِينَ )).

 والآخر، شاهد نحوي سواء أكان الشاهد آيةً من القرآن الكريم كقوله تعالى: (( لَا فِيهَا غَوْلٌ )) [ فصلت 47] أم تركيبا نثريا كقول عمر بن الخطاب: (( قضية لا أبا حسن لها ))، أم بيتا شعرا كقول سلامة بن جندل السعديّ:

                     إنّ الشّباب الّذي مجد عواقبه 

                                                  فيه نلذُّ، ولا لذّاتِ للشيبِ

الناحية الثانية، وفيها ظهرتِ القوانين، والقواعد المتحكّمة في صوغ التراكيب، ومن أوضح ما يدلّ على هذا الظهور قول ابن عقيل: (( وهي تعمل عمل (إنّ) فتنصب المبتدأ اسما لها، وترفع الخبر خبرا لها، ولا فرق في هذا العمل بين المفردة وهي التي لم تتكرر… وبين المكررة … ولا يكون اسمها وخبرها إلا نكرة )).   

الناحية الثالثة، وفي هذه الناحية بدأ الفرض اللغوي يبرز، مما تعيّن أن توضع التراكيب في ظرف يمكن التحكّم في تأويلها، وتفسيرها، ولعل سبب ظهور هذا الفرض نزوع بعض الأمثلة إلى خرق المعيار الصارم الذي وضعه علم النحو، والخروج عن النمط، وتجاوز للمسطّر المرسوم، وعدول عن القاعدة السكونيّة إلى السّنة المتحركة المتغايرة، ومن ذلك مجيء اسم (لا) التي لنفي الجنس معرفة في قولهم: (( قضيةٌ لا أبا حسن لها ))، مما أفضى إلى القول بأن ما ورد من معرفة مؤوّل بنكرة، ليتسنّى للشارح فيما بعد أن يفترض فرضا لغويا يعالج فيه مثالا لا يتفق والقاعدة النحويّة. وعلى وفق هذا يبسط ابن عقيل فرضه المؤوّل عبرَ قوله: (( فلا تعمل في المعرفة، وما ورد من ذلك مؤوّل بنكرة، كقولهـم (( قضيةٌ لا أبا حسن لها )) فالتقدير: ولا مسمى بهذا الاسم لها، ويدلّ على أنّه معامل معاملة النكرة وصفه بالنكرة كقولك (( لا أبا حسن حلالا لها )) )).

      وبين السير الأفقيّ، وسمة التنظيم، يأتي البحث عن السبب الذي يتوالى وروده في الشرح، بغية تعليل مكونات التراكيب التي شكّلتْها (لا) النافية للجنس، مما يجعلنا نراهن أن ابن عقيل كان على وعي تام بأن الظاهرة اللّغويّة لا تكون مفهومة بالمعنى العلميّ الدقيق، إلا أذا توصلنا إلى معرفة أسبابها.

      وبحكم حضور مفهوم السببيّة في الشرح على ألفية ابن مالك، تحتّم علينا ذكر أنواع الأسباب، حتى نستبين بعد الذكر، النوع الحاضر عند ابن عقيل في أثناء تفسيره وشرحه لأبيات الألفية، وإذا ما عكفنا على استقراء ما لخّصه الفيلسوف اليونانيّ أرسطو في الكشف عن السبب وأنواعه، تبيّنا أنها أربعة:

النوع الأوّل: السبب الماديّ، كأن نقول عن الخشب الذي يصنع منه السرير أنه سبب له.

النوع الثاني: السبب الصوريّ، أي أن الهيئة أو الشكل الذي يتخذه السرير، والذي يعطيه إياه صانعه، هو كذلك سبب له.

النوع الثالث: السبب الفاعل، أي أن صانع السرير، أو النّجار، هو سببه.

النوع الرابع: السبب الغائيّ، أي أن الغاية من السرير، وهي استخدامه في النوم سبب من أسبابه.

      وبعد النظر والتدقيق في المتن اللغويّ المتخصص، وأعني شرح ابن عقيل، وجدنا السبب الفاعل كان قوام التعليل الذي استحضره الشارح في سعيه الدائم إلى فهم التركيب، وقد توازى حضور هذا النوع من الأسباب في إشكالية السؤال عن الرافع لخبر (لا) التي لنفي الجنس، قال ابن عقيل: (( يُذكر الخبر بعد اسم (لا) مرفوعا، والرافع له (لا) )).

      وبعد أن بان لنا التوظيف العلميّ للسبب الفاعل في استجلاء الرافع للخبر في باب (لا)، تحسسنا وعبرَ التمعّن الفاحص للشرح، وجود سمة أخرى توازت في حضورها مع سمات التفكير المذكورة آنفا، وأقصد بتلك السمة: سمة الشمول، فلم تقف أمثلة ابن عقيل الشارحة للظاهرة اللغويّة عيّنة الدراسة على تخوم ضيّقة من عينات اللّغة، وإنما شملت شواهد شعريّة متعددة، اذكر منها ما قاله في معرض حديثه عن بناء الاسم النكرة المعطوف في حال تكرار (لا): (( وإن رُفع المعطوف عليه جاز في الثاني وجهان: الأوّل: البناء على الفتح، نحو (( لا رجلٌ ولا امرأةَ، ولا غلامُ رجلٍ ولا امرأةَ )) ومنه قوله:

                             فلا لغوٌ ولا تأثيمَ فيها 

                                             وما فاهوا به أبدًا مقيمُ

       وحقيق بنا ونحن نلج البناء اللغوي عند ابن عقيل ألا ننسى لغته الشارحة للألفية، والذي يمكن قوله في هذا الموقع من المقال: يصادف أن بعض مؤرخي العلم يفرّقون في تاريخ أي علم بين مرحلتين: الأولى، المرحلة قبل العلميّة (pre-scientific)، والثانية، المرحلة العلميّة (scientific)، ويتعكّز الصوغ العلميّ لهاتين المرحلتين على مبدأ استعمال (اللّغة)، ومن منطلق التدقيق في هذه المفارقة، قسّمت اللّغة على قسمين: لغة كيفيّة، ولغة كميّة، والمائز بين اللّغتين أن الأولى، وأعني بها (اللّغة الكيفيّة) تستعين بالأصوات اللغوية، والتراكيب النحويّة، والأساليب البلاغيّة في التعبير عن الظواهر العلميّة والإنسانيّة، وهذا القسم من اللّغة اعتمدت عليه المرحلة الأولى، أي (المرحلة قبل العلميّة)، أما اللغّة الثانية (اللّغة الكمية) فهي لغة استعانت بالرموز الرياضية المجردة بوصفها أداة تعبّر عن نتائج التجربة التي تتوصل إليها العلوم الطبيعيّة، وهذه اللّغة في الواقع كانت السفير الرسمي للمرحلة الثانية (المرحلة العلميّة). 

     وما أن يستقر أمر الاطلاع على اللغة الشّارحة للألفية، حتى نجد أن ابن عقيل يستعمل (اللغة الكيفيّة)، وبديهي وبحكم التصنيف السالف عرضه، يتبادر إلى الذهن إن المصنِّف ينتمي في لغته إلى المرحلة قبل العلمية، وفي هذا التبادر نظر من جهتين:

الجهة الأولى، وفيها يمكن القول أن اللّغة الكمية الرياضية لم يستقر أمرها بوصفها لغة للعلم في القرن السابع أو الثامن من الهجرة، وهو قرن شهد تأليف ابن عقيل شرحه على الألفيّة.

الجهة الثانية، وفي هذه الجهة يمكن القول أن اللغة خصيصة بشريّة، مستبطنة بايولوجيًّا، وهي ذهنيّة ومرتبطة بسيرورة النمو الأدراكي، وهذا يعني أن دراسة اللّغة وظواهرها يندرج ضمن ما يسمى بـ (العلوم الإنسانية)، والنزاع لم يُبتّ بعدُ بين أنصار التعبير الكيفيّ، والتعبير الكميّ عن الظواهر الإنسانيّة، إذ ما تزال بعض المدارس المعرفيّة تؤكّد أن الظاهرة الإنسانية مختلفة من حيث المبدأ عن الظاهرة الطبيعيّة، ومن ثَمّ فإن أساليب التعبير عن الثانية لا تصلح للأولى، وعلى وفق هذه الدعامة تتأسس الطاقة العلمية للغة الكيفية في التعبير عن الظواهر التركيبيّة في علم النحو.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى